** شوية وطن ، وفلافل ، وثعالب …
أبو حبيب
لم نكن في القرية نعرف الفلافل، عرفتها حينما انتقلت للدراسة في المدينة. ما زلتُ أتذكر أول لفّة فلافل أكلتها مع كازوزة ستيم في ندوة المدرسة، يومها دفعتُ مبلغاً بخساً جداً ( 7 ) فرنكات فقط .
كنتُ حينما أقول لبائع الندوة (لفلي لفة فلافل) أنطربُ جداً ؛لتناغم هذه الجملة،ربما لأن كلماتها تشبه كلمات أغنية كنا نرددها كثيراً أثناء درس الرياضة في مدرسة القرية ، والتي تقول :
فات الثعلب .. فات ….فات ..
وبذيله سبع لفات .
تلك الأغنية رسمتْ في مخيلتي – وأنا صغير – صوراً لثعالب كثيرة تركض وبذيل كل واحد منها سبع لفات مختلفة :
( لفات بيض،ولفات زيت وزعتر، ولفات خاثر، ولفات دبس بندورة مع بصل يابس،ولفات خبز حاف ).
لكن ثمّة سؤال كانَ يحيرني ، ولا يزال :
إذا كانت الثعالب تحمل كل هذه اللفات في ذيولها لماذا إذاً تسرق دجاجات أهل القرى الفقراء ؟!
في أحد أيام القرن الماضي أصاب حوالي 30 طالباً – أنا أحدهم – إقياء وإسهال شديدين جداً، فقامت إدارة المدرسة بإسعافنا إلى المشفى الوطني ، رقدنا حوالي خمس ساعات، ثم غادرنا جميعاً سالمين . قال الأطباء :
إنّ سبب تسممنا هو تلوث لفات الفلافل،
وكيف لا نتسمّم ؟ وعامل الندوة القذر يخرج من التواليت، ويبدأ فوراً بلف اللفات وبيعها لنا،دون أن يموص يديهِ بنصف كأس ماء !
أصبحت حكاية تسمّمنا قضية ( رأي عام ) في الرقة والوطن العربي وأوربا وأمريكا والصين والإتحاد السوفيتي ، وتوقعنا جميعاً حينها أن البائع القذر سوف( يتخ) بالحبوس خاصةً وأنّ أغلب أهالي الطلاب المتضرّرين قدموا للجهات المختصة شكوى مدعومة بتقارير طبية، تثبت أنّ حالة التسمم كانت بسبب تلوث الفلافل .
فعلاً تم إغلاق الندوة، لكننا تفاجأنا بعد ثلاثة أيام بعودة البائع نفسه يفتح الندوة ،وكانَ هذه المره يرتدي صدريّة بيضاء نظيفة، وكفوف طبّية شفّافة، ففرحنا كثيراً لنظافتهِ، لكنه قامَ بعد اسبوع برميهم ،وعادت (حليمة لعادتها القديمة). يومها قال لنا أحد المدرسين :
هل تدرون أن القذر بائع الفلافل(دبّر حالو)، ولفلف الموضوع ؟
كان لتكرار كلمات (فلافل – لفلف) إيقاع جميل
على وعينا نحن الصغار، سألنا المدرس :
وكيف لفلف الموضوع ؟
أجاب :
تبينَ بعد التحقيق أن المالك الحقيقي للندوة هو الرفيق مدير المدرسة المدعوم من (المعلم الكبير)، وأن عامل الندوة ماهو إلا أجير عندهٌ باليوميه، لذلك قام(المعلم الكبير) بلفلفة الموضوع لحماية المدير ،وحينما سألنا
المدرس – مرةً أخرى- وبصوتٍ واحدٍ :
أستاذ، مين المعلم الكبير ؟
تثاءب ، وحكَّ صلعتهُ، ثم استدارَ إلى السبورة ، وأكمل الدرس قائلاً :
تدخل( كانَ) على الجملة الأسمية، فترفع المبتدأ ويُسمى اسمها ، وتنصب الخبر ويُسمى (خبرها) ، وأضاف :
مشان الله، يستر عرضكم، خلونا في وضعية
(اسم كان) ، بدلاً ما نكون -آخر عمرنا- في
وضعية(خبر كان) ،ثم غادر القاعة على عجلٍ !
إثرَ ذلك قامَ والد أحد الطلاب – وهو محامي كبير – بتقديم شكوى لمجلس الأمن، طالبه بضرورة معاقبة الجاني حسب الفصل السابع، لكن مندوبي الإتحاد السوفيتي والصين استخدما حق الفيتو وأجهضا القرار .
حينما كبرنا اكتشفنا أن مدير المدرسة كان
(مخبراً) لدى الأمن، وكان مكلّف بمراقبة زملائهِ المدرسين ، وخاصةً الشيوعي مدرس اللغة العربية ،والوهابي مدرس التربيةالدينية ،حفاظاً على سلامة الطلاب من أفكارهم الهدّامة . أما مراقبة نظافة (الفلافل)،وتسمم الطلاب،فهذا أمر غير مهم !
منذ خمسين سنه و(المعلم الكبير)يبيعنا فلافل مسمومة ، وحين حاولنا الاحتجاج عليهِ، والحد
من تسلطهِ، ظهر لنا بدلاً عنهُ خمسون بياعاً ، وألف ثعلب – بعضهم يرتدي عمامات وذقون، وآخرون يرتدون كرافيتات – أوسخ منه بمئة مرة حيث أنهم – ومنذ 12 عاماً – يسرقون خبز أهل القرى الفقراء ،ودجاجهم في وضح النهار ، وكلما يحاول السوريون تقديم شكوى رسمية بحقهم جميعاً،يقوم (المعلم الكبير) بلفلفة الموضوع !
*شفتوا إشكد مصيبتنا كبيرة ، وكبيرة جداً بالمعلم الكبير ،والمدير ،والثعالب ؟