عن الأم وفقدها
فادي الأصمعي
لا شيء يملأ هذا الفراغ، كل ذكرى أصبحت تحمل في طياتها ألم الفقد، أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام التي كنت أجلس فيها بجانبها، أراقبها وهي تعد “الزبدة البلدية”. كانت تلك الأوقات التي نعتبرها عادية هي في الحقيقة أثمن لحظات الحياة. كانت تتحدث معي عن كل شيء، وعن لا شيء، كانت تمنحني حكمتها دون أن تشعر، وأنا كنت أعتبرها أمرًا بديهيًا، وكأنها ستبقى هنا إلى الأبد.
الآن، لم يتبق لي سوى الذكريات؛ ذكريات الطعام الذي كان يسد جوع الروح قبل الجسد، وذكريات ضحكاتنا التي كانت تملأ المنزل بالحياة، كلما أغلقت عيني، أراها في “الغرفة التحتانية”، شاردة، تشعر بالفخر لأنها استطاعت جمعنا حول المائدة بعد عناء، ولكن عندما أفتحها، أجد نفسي وحيدًا، غريبًا في منزل كان يومًا ما مليئًا بالدفء.
لم يعد هناك منزلاً منذ رحيلها، لا أحتمل فكرة الدخول إليه وهي ليست هناك، لكنني أعلم أنني سأعود يومًا ما، سأجلس على سفرة ” السباط” سأتذكر كيف تسند ظهرها على حائط غرفتها، وتشرب كأساً من الشاي الحلو، سأستعيد كل لحظة عشناها معًا، سأغمس لقمة في طبق من ذكرياتها، وسأترك دموعي تختلط بطعمها، لأن الذكريات هي كل ما تبقى لي منها، وهي ما سيبقيني على قيد الحياة، حتى في غيابها.
هذا هو الثمن الكبير الذي ندفعه للزمن، نكبر، نفقد، ونبقى نحاول ملء الفراغ الذي تركه الأحباء، دون جدوى، لكنني أعلم أنه لا شيء يمكنه أن يحل محلها، لا شيء يعيد صوت مشيتها، وصوت همهماتها، لا شيء يعيد تلك اللحظة التي أمسكتني بها من شعري ورمتني أرضاً لأنني اقتربت من حدود قلبها، لا شيء يمكنه أن يعيد تلك اللحظات، ولا شيء يمكنه أن يطفئ نار الشوق الذي يحرقني من الداخل.
#لمّا_أنذرني_العواء