الأحد , ديسمبر 22 2024
الرئيسية / كلام سوريين / إعادة تدوير

إعادة تدوير

إعادة تدوير..

خالدة محمد 

 

عند وصولي للمملكة في أواخر التسعينات، كنت أحياناً كطفل صغير ينبهر بذلك العمران الناهض والأسواق الكبيرة وسع مدينتي وأسواقها مجتمعة..

بطبيعتي كنت أهوى الريف، وإن عشقت حين كنت أسكنها دمشق..

وأعشق رائحة التراب مع بداية هطول قطرات المطر صغيرة النشأة ورائحة أمي وفرنها ورائحة الأطعمة المنبثقة من ذلك المطبخ الصغير .

 اقتطعه أبي من بلكونة منزلنا الصغير الذي يضيق على ثمانية أطفال وأبوين كادحين..

 

لم يكن كمطبخي الآن كبيراً واسعاً .. سعيت جاهدةً طِوال غربتي غير عابئة بمقولة إحداهن : هذه البلاد الحارة ليست بلادنا…

 

قدور الألمونيوم التي تتساقط من ذلك الرف المتهالك المُتّكئ على مسمار صدىء التي أنهارت وأنتظرت الموت الرحيم بين يدي أمي، ودعكها كي تلمع كضحكتها القمرية .

مطعوجة كنت أقول لها كالألمونيوم أكلمها كعالمة صغيرة قد حفظت بعد من الجدول الذري للمعادن وكأنها أصبحت هي ماري مكتشفة اليورانيوم..

يتفاعل يا أمي ذلك المعدن وأطعمتكِ الحادة اللذيذة.. ترد علي 

أصمتي أيتها اللاذعة ذلك ما استطاعت إليه جيبة أبيك..

 

يكتظ مطبخها الصغير بتلك المطربانات الزجاجية وهي تضم كعشاق قدرهم الفراق يوماً (المكدوس والزيتون بألوانه الشهية) والمربيات بأنواعها التي لم تترك أمي حتى قشور البطيخ وحبات الطماطم ولم تغليها كقلب أبي في ذلك السكر الرديء سكر الدولة كنا نسميه..

كأي شيء في بيتنا كان يتبع لملكية الدولة حتى أنفاسنا وصرخاتنا وحتى محاولات أبي الفاشلة أن يكون رشدي أباظة وتلك المحاورات الغزلية التي تنتهي بجملة .. (عيب يا زلمة الولاد حوالينا)..

 

كان أبي جميلاً جداً بحاجبيه المكتظتين بشعر كثيف أسود كسيفان دمشقيان يعلنان الحرب دوماً وكثيراً ما يتوازيان حباً ورأفة .

ويعقدان السلام كلما أقترب آخر الشهر..

 

لم تكن أمي ترمي شيئاً من الأغراض، كل غرضٍ لابدَّ أن يعاد تدويره .. كعلب السمنة التي كانت تصطف على درابزين بلكونتنا الثانية الواسعة وسع قلبي حينها .

وعلى أطراف الحديقة الممتدة كطول الطريق بين دمشق وجدة، وتلك الزهور اليانعة الوارفة بكل ألوان الحياة 

الآن ألبس الربيع في خزانتي..

 

كنت ساذجة جداً في بدايات عمري وأنا أهوى الواناً قاتمة وأتخذها لباساً لي وأنا في فورة وزهوة العمر فهل أراهق الآن؟

 

بل أشتاقها تلك العلب، كانت تحشر أصابع الخيار الصغيرة في تلك القناني البلاستيكية وبعين ثعلب ماكر أحاول فاشلة أن أرمي بداخلها كأمي حبات الخيار الكثيرة .. أخلل وحدتي وأنساها حتى تصبح نبيذاً، هل يسكر الإنسان إن شرب غربته؟!..

هل ياتراه يأثم؟ ..

وتلك الشراشف الحائرة على حبل الغسيل الطويل كنفس أمي وتصبرها كلما كشّر أبي. 

وبانت بوادر انفجارات غضبه 

سرعان ما كان بنظرة منها يهدأ..

تلك الشراشف كانت أمي تقتطع منها ما بقي متماسكاً طوال خدمتها لنا لتصبح بيجامات فنصبح نحن والفراش واحداً مقلمين أو نعجْ بفوضى من الألوان مبعثرة ضحكاتنا ومبارياتنا من يقف على رأسه وقتا أطول.

 من يطيل مدى بصقته ومن يستطيع أن يكتم أنفاسه أكثر..

 

كل شيء معاد التدوير في بيتنا وبيت كل سوري 

من علب السمنة حتى الزجاجات الفارغة حتى الدمع والضحك يعاد تكريره. 

وأنا في السوبر ماركت ألمح علب السمنة والقوارير والشراشف وكل شي هنالك جديد يلمع والوجوه هناك أراها كما كانت هناك تلمع .

كل ما حولي يستعمل لمرة واحدة لا يعاد تدويره …

حتى أنا…

شاهد أيضاً

عيشة كلاب

المعتز الخضر أوصلتُ ابنتي إلى المدرسة في الصباح الباكر و عُدتُ أدراجي في السيارة الجرمانية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × 4 =