تُسمّى الضفة الجنوبية لنهر الفرات في الشرق السوري «الشامية»، والضفة الشمالية تُسمّى «الجزيرة»، وتتوزع مدن وبلدات وقرى محافظة دير الزور على الضفتين، اللتين كانت تربطهما عدة جسور تصل تلك الحواضر ببعضها بعضاً، وتصل بادية الشام بأراضي الجزيرة الخصبة.
كان أول جسور محافظة دير الزور من الغرب هو جسر المغلة على الحدود الإدارية مع محافظة الرقة، يليه جسر حلبية وزلبية، وهي منطقة أثرية تبعد ما يقارب الـ 40 كم غرب دير الزور، ثم جسر الجورة الذي يصل حي الجورة بالحويقة الغربية في مدينة دير الزور، ومن ثم الجسر المعلّق الذي يعدُّ أبرز معالمها، وكان قد بدأ بناؤه أيام الاحتلال الفرنسي عام 1925 وتم افتتاحه عام 1931، وارتبطت دير الزور بصورته تاريخياً حتى صار رمزاً لها. وفي مدينة دير الزور أيضاً كان جسر «السياسية» الذي حمل اسمه الشائع هذا نتيجة وجود فرع الأمن السياسي على مدخله الشمالي، وجسر الكنامات -نسبةً لعائلة كنامة-، وجسور أخرى صغيرة تربط ضفتي النهر الذي يتفرع داخل المدينة إلى فرعين.
أما في الريف الشرقي لدير الزور، فهناك جسر الميادين الذي يربطها مع الشحيل وذيبان على الضفة الأخرى، ثم جسر العشارة الذي أقيم على طريقة الجسور الحربية، حبال وقطع خشبية لعبور الجنود والآليات الخفيفة. ثم جسر الرمادي على بعد 15 كم غرب البوكمال، وهو عبارة عن سكة قطار بُنيت حديثاً قبل انطلاق الثورة، ولم يكن قد انتهى العمل به بشكل نهائي، ويصل قرية الرمادي مع مدينة هجين. وأخيراً جسر السوسة وجسر الباغوز في البوكمال أقصى شرق المحافظة.
جميع هذه الجسور مدمرةٌ وغير صالحة للاستعمال اليوم، وكان جسر دير الزور المعلّق أول الجسور التي دُمِّرَت، وذلك بمدفعية وطائرات النظام في العام 2014، كذلك قام النظام بتدمير جسر الكنامات بعد استهدفه عدة مرات خلال العام 2014. أمّا جسر السياسية الذي بقي لسنوات رئة أحياء مدينة دير الزور المحررة بعد تحريرها في العام 2013، فقد قام طيران النظام ثم طيران التحالف بقصفه عدة مرات منذ العام 2013، وفي كل مرة كانت تتم محاولة ترميمه بشكل مؤقت كونه المنفذ الوحيد لأحياء الدير التي كانت قد سيطرت عليها داعش.
بقية جسور محافظة دير الزور تم تدميرها في بداية العام 2017 على يد طيران التحالف الدولي، الذي شنَّ حملة قصف جوي شاملة بهدف تقطيع أوصال المحافظة، وعزل ضفة الشامية عن ضفة الجزيرة، ومنع داعش من نقل قواته وآلياته الثقيلة بين الضفتين.
تسبب تدمير الجسور بأزمة اقتصادية خانقة في المحافظة المحاصرة أصلاً، وأصبح من المتعذر نقل البضائع والمواشي والناس بين طرفي النهر فتوقفت الحركة التجارية تقريباً، وتسبب ذلك أيضاً بأزمة إنسانية وصحية بسبب تركز المرافق والمراكز الصحية جنوب نهر الفرات، إذ بات نقل المرضى والمصابين بالغ الصعوبة، خاصة إلى مشفى الميادين، الذي أصبح المشفى المركزي في المحافظة، وكثيرٌ من الاختصاصات الطبية ليست متوافرة إلا فيه.
كذلك أصبح هناك صعوبة في انتقال المسافرين من الضفة الشامية إلى الرقة والباب وريف حلب، وأصبح صعباً تأمين كثيرٍ من الاحتياجات غير المتوفرة في المحافظة، مثل قطع تبديل السيارات والمواد الكهربائية التي تركزت في محافظة الرقة وريف حلب، بعد انتقال المدن الصناعية وأصحاب المحلات إليها من مناطق أخرى.
بالإضافة إلى الجسور، كان هناك أصلاً بعض المعابر النهرية التي تصل ضفتي الفرات، وكان الناس يلجؤون إليها بسبب المسافات الكبيرة التي تفصل الجسور عن بعضها، وبعد عام 2014 تزايد استخدامها نسبياً بسبب خطورة التنقل على الطرقات الطويلة بين الجسور في ظروف الحرب والقصف المستمر. لكن بعد أن تم تدمير جميع الجسور بدايات 2017، انتشرت كثيرٌ المعابر النهرية على طول الفرات في محافظة دير الزور، وباتت البديل الحيوي الوحيد الذي يمكن اعتماده للتنقل بين الضفتين.
المعابر النهرية هي مناطق تم اختيارها بعناية على طرفي النهر، بحيث يمكن للسفن البدائية التي يتم تصنيعها محلياً الرسو على طرفيها، ومن شروط ذلك أن يكون العمق مناسباً عند الشاطئ، بحيث يمكن للسفينة أن تقف دون أن ترتطم به، وأن تكون المياه راكدة أيضاً تقريباً، وتمت تسوية الشواطئ عند المعابر بحيث تتمكن السيارات من الدخول والخروج إلى السفن بشكل آمن.
حلَّت هذه المعابر مشكلة التنقل وأصبحت بديلاً جيداً للجسور، وامتدت على طول نهر الفرات حتى أصبح لكل منطقة معبرها الخاص، ما أنعش الحياة الاقتصادية وأصبح باباً جديداً للعمل وجني الرزق. كان كل معبرٍ ملكية خاصة لشخص أو مجموعة أشخاص، وذلك بناءً على عدة عوامل أهمها ملكيةُ الأرض المحاذية لسرير النهر في منطقة المعبر، ومصدرُ رأس المال الذي أُنفق لتجهيزه.
كانت أجور النقل تبلغ نحو دولار واحد للشخص، وخمس دولارات للسيارة الواحدة، وتستطيع السفينة أن تنقل أكثر من سيارة، وعشرات الركاب، وذلك حسب حجمها. هكذا تحول النقل عبر المعابر إلى تجارة رابحة، وبدأ بعض مبايعي التنظيم بالسيطرة عليها تدريجياً، ثم استولى التنظيم على أكبر المعابر فيما فرض رسوماً على الأخرى بموجب قرارات صادرة عن دواوينه.
السفن المستخدمة في النقل بدائية الصنع، وهي عبارة عن براميل مفرغة تصطف جانب بعضها بعضاً حسب حجم السفينة المراد بناؤها، تُربط إلى بعضها ويتم لحامها بشكل جيد، ومن ثم وضع قطعة كبيرة من الصفيح وتثبيتها بشكل جيد فوقها، ومن ثم وضع إطار ليحمي من يركبها، وتوضع صفائح لسهولة دخول وخروج السيارات والجرارات الزراعية والمواشي إليها، ويتم تثبيت محرك يعمل على الديزل ودفة توجيه يشرف شخصٌ على توجيهها. تستمر الرحلة حسب عرض نهر الفرات، لكنها تمتد بين 5 دقائق إلى 10 في أكثر الأحوال.
استمر العمل على هذه المعابر حتى شهر أيلول/سبتمبر الماضي، عندما بدأ نظام الأسد باستهدافها بدعم من الطيران الروسي بعد شهر من الحملة العسكرية التي أطلقها الروس والنظام على المحافظة، وارتكبت الطائرات خلالها مذابح كبيرة بحق المدنيين في عدة مدن وبلدات وقرى، ما اضطر كثيرين للنزوح إلى مناطق الأكثر أمناً.
تركزت هجمات الطيران الروسي على الجانب الشمالي للنهر «الشامية»، ما جعل الأهالي يهربون عبر المعابر النهرية إلى الضفة الأخرى، التي أصبحت الخيار الأخير أمامهم، حيث قاموا ببناء ما يشبه المخيمات المؤقتة على ضفاف نهر الفرات بعد أن دمرت بيوت المئات منهم. لكن الطيران الروسي وطيران النظام اتبع استراتيجية جديدة تمثّلت باستهداف المدنيين على هذه المعابر، ما تسبب بعدة مجازر لم تُوثَّق جميعها بسبب عدم وجود اتصالات، وبسبب التضييق الذي يمارسه تنظيم داعش على العمل التوثيقي والإعلامي في مناطقه.
بدأت الطائرات الحربية بارتكاب مذابح المعابر النهرية منذ أوائل أيلول الماضي، وهي لا تزال مستمرة خلال شهر تشرين الأول الجاري، منها مذبحة معبر الحوايج التي راح ضحيتها نحو 40 مدنياً، ومذبحة معبر الشميطية التي راح ضحيتها 3 أشخاص. هذا في الريف الغربي، أما في الريف الشرقي فقد ارتكبت عشرات المذابح المتنقلة: 36 شهيداً في معبر البوليل، وعشرات الشهداء في معبري الميادين والعشارة، و54 شهيداً في معبر درنج، وغارات ومذابح على معابر صبيخان، الطوب، موحسن، طابية شامية، هجين، الباغوز في البوكمال.
يبدو أن الطيران الحربي الروسي يريد وقف استخدام المعابر النهرية نهائياً، وهو يواصل استهدافها بشكل متكرر حتى اللحظة، موقعاً مئات الضحايا والجرحى، غالبيتهم العظمى من المدنيين الفارين من جحيم الحرب، الذين لا تُبدي القوى المتصارعة ولا المجتمع الدولي أدنى اهتمام بمصيرهم، ولعل من أبرز فصول الجريمة التي تُرتكب بشراكة دولية، هي عدم بذل أي جهد لتأمين ممرات آمنة لهم، ولا لتجهيز مخيمات صالحة للحياة لاستقبالهم فيها.
لا شكّ أن روسيا والنظام السوري سيبرران هذه المذابح عند أي سؤال بالقول إن المعابر تستخدم لنقل عناصر داعش، لكن استهداف مدنيين بذريعة وجود مسلحين أو مطلوبين بينهم هو جريمة حرب، حتى لو كان هؤلاء المسلحون أو المطلوبون بينهم فعلاً، وهي جرائم حرب تُرتكب دون أن يكون هناك أي كلام دولي حول محاسبة مرتكبيها أو إيقافهم أو حتى إدانتهم.