انعكس التنسيق الأمريكي الروسي والاتفاق على تقاسم مناطق النفوذ في سوريا بصورة جليّة على الخارطة العسكرية والجيوسياسية، على نحوٍ يبدو أنه انتصار للحل الروسي بفرض مناطق خفض التصعيد وتحييد قوات الجيش الحر ومنعها من قتال النظام وحلفائه، وهو ما أتاح للأخير أن ينقل كثيراً من قواته ودعمه العسكري واللوجستي باتجاه المنطقة الشرقية، لتصبح معركة دير الزور هي المعركة الأهم وميدان الصراع الدولي والإقليمي القادم.
تكتسب معركة دير الزور أهميتها من عدة نقاط أبرزها أنها باتت تقريباً المعقل الأخير لتنظيم داعش في سوريا بعد اقتراب اندحاره من الرقة، يضاف إلى ذلك موقعها الاستراتيجي بالنسبة لجميع الأطراف، وغناها الاقتصادي، لكن معركة دير الزور الحقيقية لم تبدأ بعد في الواقع، وكل ما حدث حتى الآن هو سباق لفرض أمر واقع على الأرض، بين النظام وحلفائه الروس والإيرانيين من جهة، وقوات سوريا الديموقراطية والتحالف الدولي من جهة أخرى، وهو سباق يرتبط بعدة عوامل متعلقة بالوضع السوري عامة، وبوضع المحافظة بصورة خاصة.
الحرب الباردة التي تدور في دهاليز السياسة بين الولايات المتحدة وروسيا باتت مفاعيلها واضحة على الأرض، فكل من الطرفين يريد تسجيل نقاط في شباك الآخر، لكن الروس أكثر جدية في دعم حلفائهم من الأمريكيين، حتى أن دعم الولايات المتحدة لحلفائها في معركة «عاصفة الجزيرة» التي أُعلن عنها في التاسع من أيلول الماضي، جاء ردة فعل على التطورات المفاجئة التي فرضها الروس، عندما دعموا قوات النظام برياً وجوياً ما جعل من تقدمها على الأرض سريعاً وسلساً، حتى أنها قطعت مئات الكيلومترات خلال الأيام الأولى من أيلول نفسه، على حساب تراجع عناصر داعش السريع هناك عبر محور تدمر دير الزور بسبب القصف الجوي الكثيف على مواقعه وانهيار الروح المعنوية لمقاتليه، وانشغالهم بمعارك أخرى على امتداد الجغرافية السورية والعراقية.
التردد الأميركي الواضح، وعدم الوصول لاستراتيجية بما يخص معركة دير الزور حتى اللحظة، يجعل المشهد يبدو ضبابياً، فالأمريكيون لم يعتمدوا حتى اللحظة على حليف واضح وفعّال، وبدأوا تحركهم من شمال دير الزور، وتحديداً من بادية الحسكة الجنوبية ومناطق أبو خشب والشدادي باتجاه مدخل دير الزور الشمالي، بالاعتماد على قوات سوريا الديموقراطية التي لا تزال تخوض معارك الرقة، بالإضافة إلى فصيلين من المكون العربي يقاتلان تحت مظلتها، وهما: مجلس دير الزور العسكري بقيادة أحمد الخبيل أبو خولة، وكان قد تم تأسيسه منذ نحو عام ونصف، وانضم بعيد تأسيسه لقوات سوريا الديموقراطية وشارك في جمع معاركها في أرياف الحسكة والرقة و دير الزور، ولا زال يقاتل في الرقة، وهو كما يقول قائده أبو خولة «رأس الحربة والقوة الرئيسية في معركة تحرير دير الزور»، ويبلغ عدد مقاتليه حوالي 4000 مقاتل معظمهم من أبناء دير الزور الذين قاتلوا النظام وداعش سابقاً. والفصيل العربي الآخر هو كتائب البكارة بقيادة ياسر الدحلة، وهم مقاتلون انشقوا عن قوات النخبة، الحليف السابق لقسد، بعد تحييدها حتى اللحظة عن معركة دير الزور بسبب رفضها العمل تحت مظلة قسد وإصرارها على التمتع باستقلالية القرار، وكانت قوات النخبة التي ترفع راية الجيش الحر رفضت القتال تحت راية قسد في معارك الرقة، بل عملت بالتنسيق معها فقط، وانسحبت من معركة الرقة بعد خلاف حول مستقبل إدارة المدينة.
الخيار الأمريكي حتى اللحظة يبدو غير فعّال نظراً لضعف القوات البرية التي يعتمد عليها، واستثناء قوى أخرى فاعلة على الأرض، مثل جيش مغاوير الثورة وجيش أسود الشرقية اللذان يقاتلان في البادية السورية منذ سنوات، واللذان كانا يُعتبران حتى فترة قريبة الخيار الأمثل لتحرير دير الزور، خاصة أنهما يتمتعان بدعم شعبي واسع من سكان مناطق دير الزور، وعدد جيد من المقاتلين، وقبول لدى ناشطي الثورة. لعل من بين أسباب استثناء الأمريكيين لهذه القوى هو الخلاف بينها، وعدم وصولها حتى اللحظة إلى صيغة عمل موحدة تقنع الأمريكيين بالقبول بها وتشعرهم بأهمية مشاركتها، ويعود الخلاف بين هذه الفصائل إلى تراكمات من الأحداث والخلافات منذ قيام الجيش الحر في دير الزور، وإلى خلافات في وجهات النظر وخلافات شخصية بين بعض القادة، وكذلك اختلاف الداعمين واستراتيجية العمل باتجاه دير الزور، ففي حين يرى جيش أسود الشرقية أنه الجهة الوحيدة التي لم تتوقف عن قتال النظام وأنه الأحق بقيادة مرحلة دخول دير الزور، وأن الجبهة التي تناسبه هي جبهة البادية، يرى جيش مغاوير الثورة أن الدخول إلى دير الزور يستلزم تعاوناً مباشراً مع الأمريكيين الذين اختاروا الجبهة الشمالية منطلقاً لعملياتهم.
لكن الفصيلان يتفقان على عدم العمل تحت قيادة قوات سوريا الديموقراطية، وعلى ضرورة قتال النظام داخل دير الزور، خلافاً لما يشترطه الأميركيون لإشراك هذه القوى، ولعل هذا هو السبب الأساسي الذي أدى إلى استبعادهما حتى اللحظة.
كذلك هناك أبناء دير الزور في فصائل الشمال المدعومة من تركيا، وأهمها فصيل أحرار الشرقية الذي أعلن منذ أيام عن تشكيل جيش الشرقية، وعدد مقاتليه حوالي 615 مقاتلاً، وكذلك مجلس دير الزور العسكري الموحد ودرع الشرقية وعددهم حوالي 150 مقاتل، وفصيل أبناء الشرقية وعددهم حوالي 135 مقاتلاً، ومجموعة أبو خالد حوايج ويبلغ عددها نحو 160 مقاتلاً، بالإضافة إلى عشرات المقاتلين من أبناء دير الزور في فصائل الجبهة الشامية وأحرار الشام وجيش الإسلام. وجميع هذه الفصائل لم تتخذ موقفاً واضحاً من عملية دخول دير الزور حتى اللحظة، وذلك بسبب عم تبلور الموقف التركي من هذه العملية.
لكن ثمة عاملاً آخراً قد يكون ساهم في قرار الأمريكيين باستبعاد هذه القوى، وهو ما رَشَحَ عن وجهة النظر الأمريكية التي ترى في وجود عنصر غريب عن المنطقة حلاً للمشاكل الاجتماعية التي قد تنشأ بعد خروج داعش، إذ استفاد الأمريكيون من التجربة العراقية فيما يتعلق بصراع العشائر وحالات الثأر التي خلقتها داعش بممارساتها التي تعمدت إيجاد شكل من الاحتقان بين هذه العشائر من خلال إصداراتها، وهو ما قد يعززه دخول فصيل محسوب على منطقة معينة أو عشيرة معينة إلى منطقة غير منطقته. لذلك يبدو أن الرؤية الأميركية تسعى إلى الاعتماد طرف ثالث لا علاقة مباشرة له بالمنطقة، بحيث لا يكون طرفاً في أي صراع محلي، أو اتباع سياسة المحاور الجغرافية مع القوى العربية، بحيث يقاتل أبناء كل عشيرة في مناطق تواجد عشيرتهم، وهو ما حدث عند مشاركة كتائب البكارة بقيادة ياسر الدحلة، المشار إليها سابقاً، والتي قاتلت في ريف دير الزور في مناطق أغلبية سكانها من البكارة.
هكذا كانت قوات سوريا الديموقراطية البديل الجاهز وغير المكلف لتلافي الآثار الناتجة عن تقدم النظام من الجنوب، حتى وصلَ إلى مداخل مدينة دير الزور الجنوبية وتمكن من فكّ الحصار عن قواته هناك، فجاء إعلان قسد عن معركة عاصفة الجزيرة متسرعاً وغير محسوب، وليست الخطوات التالية فيه واضحةً أو مخططاً لها.
هناك تسريبات متكررة عن توزع مناطق النفوذ، لكن إمكانية حدوث صدام بين القوى المتقدمة هو ما يؤرق الأمريكيين والروس، حيث الخطوط متشابكة واحتمالات الصدام كبيرة جداً، وقد بدت واضحة في محاولات جس النبض التي قامت بها قوات الأسد من خلال عبورها لمناطق تعدُّ وفق ما تم تسريبه ضمن مناطق سيطرة قسد المستقبلية، حتى حدث اصطدام غير مباشر عندما قصفت الطائرات الروسية مواقع لقسد في رسالة واضحة تعبرُ عن دعمها قوات النظام لعبور نهر الفرات شمالاً، وهو ما يبدو مرفوضاً عند الأمريكان. كذلك فإن الاشتباكات بالقرب من حقل كونيكو للغاز دليلٌ على أن الصراع قد يأخذ شكلاً آخراً مرتبطاً بتوزع حقول النفط والغاز في المنطقة، والتي تتقاسمها حتى اللحظة ثلاث قوى رئيسية، إذ كانت قسد تسيطر على جزء منها أصلاً، وسيطرت مؤخراً على حقلي كونيكو والصبحة، فيما يسيطر النظام على حقول الخراطة في الريف الغربي والتيم قرب مطار دير الزور العسكري، ويسيطر تنظيم داعش على باقي الحقول، وأبرزها حقلي العمر والورد في الريف الشرقي.
ليس ثمة معلومات مؤكدة أو معلنة حول توزيع مناطق السيطرة المتفق عليه، وليس مؤكداً أن اتفاقاً بين الأميركيين والروس قد أنجز أصلاً، لكن التحليلات والتسريبات تذهب إلى أن المناطق التي ستخضع لسيطرة النظام هي مدينة دير الزور وما حولها وتأمين محيطها الجغرافي جنوب الفرات. أما شمال نهر الفرات المسمى محلياً الجزيرة فهو سيكون تحت سيطرة قسد، وهو يحتوي على أبرز حقول النفط والغاز في المنطقة، وبالتالي هو مطمعٌ لكلا الطرفين. لتبقى البوكمال وما قبلها حتى الميادين ضمن تطلعات الطرفين، خاصة مع دفع إيراني باتجاه السيطرة على تلك المنطقة من أجل تأمين طرق إمداد المليشيات التابعة لها عبر الأراضي العراقية.
يبدو أن تراجع داعش المفاجئ قد أغرى كلا الفريقين للتمدد أكثر، وهو ما يجعل الاحتكاك أمراً لا بدّ منه، وربما تكون السيطرة عليه أصعب في مرات قادمة، وهو ما جعل كلا القوتين تتريثان في العمليات العسكرية بغية الوصول إلى حل ما، أو نقاط اتفاق مشتركة كانت قيد التحضير بين القوى، لولا العملية المفاجئة التي أطلقها الروس والنظام وأربكت المشهد.
هذا الاضطراب، إضافة لانتقال كثير من عناصر داعش من العراق بعد خسارتهم للمعارك هناك، وإدراكهم أن نهايتهم ستكون بنهاية معركة دير الزور، دفع التنظيم إلى تنفيذ هجوم معاكس على المناطق التي انسحب منها سابقاً وخسرها بسرعة قياسية، ليستعيد معظم النقاط التي خسرها على جبهة السخنة وطريق السخنة دير الزور، بالتزامن مع قصف شديد متواصل لمناطق سيطرته في كامل محافظة دير الزور.
سينشأ عن هذه الوضع اتفاقات جديدة وخرائط جديدة لتوزع القوى في دير الزور، وربما تؤثر فيها الخلافات الروسية الإيرانية، التي يدلُّ عليها ضعف التواجد الإيراني في هذه المعركة حتى الآن، وهو ما يمكن استنتاجه من الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها قوات النظام في هجوم داعش المعاكس، مع خسائر أقل بكثير لحقت بالمليشيات التابعة لإيران. ولعل الخلاف يتعلق بالأوضاع المستقبلية للحدود السورية العراقية، التي يريد الأميركيون السيطرة عليها، ما قد يدفع إيران إلى لعب أدوار معطلة.
نقطة القوة الأساسية التي يملكها نظام الاسد هي سيطرته على الريف الغربي لمحافظة دير الزور جنوب نهر الفرات، أي المنطقة الممتدة على طول الضفة الجنوبية للنهر غرب مدينة دير الزور، من عياش حتى التبني وصولاً إلى قواته التي سيطرت على ريف الرقة الشرقي حتى معدان، كذلك تعدُّ سيطرته على مطار دير الزور العسكري نقطة قوة له، لكن في الوقت نفسه يشكل رفض الحاضنة الشعبية الواسع في المناطق المستهدفة عنصر ضعفه الأساسي.
كذلك على الجهة المقابلة تشهد قوات سوريا الديموقراطية خلافات تشبه تلك التي حدثت مع قوات النخبة بعد انطلاق معركة الرقة، إذ قامت قوات سوريا الديموقراطية قبل أيام قليلة باعتقال ياسر الدحلة (ياسر الفياض) قائد كتائب البكارة بذريعة عدم إطاعته للأوامر، رغم التقدم الكبير الذي أحرزته قواته على الأرض، وهو ما قد يسبب تأخراً في العمليات العسكرية على خط الريف الغربي شمال الفرات باتجاه قرية الكسرة.
لا يزال توزع القوى يشهد تغيرات يومية ومفاجئة على الأرض دون معرفة حقيقة التفاهمات والعوامل التي تكمن خلفه، وهو ما يجعل التكهن بمسار المعارك القادم أمراً صعباً، لكن المؤكد أن المعركة الكبرى لم تبدأ بعد في دير الزور، ولا تزال الأطراف تتسابق لتحسين وتحصين مواقعها وجبهاتها، دون أن يبدو أي من الطرفين الأساسيين، النظام وقوات سوريا الديموقراطية وحلفائهما، مهتماً بمصير مئات آلاف المدنيين الذين تقصفهم طائرات الجميع صباح مساء في عموم دير الزور.