الإدارة السورية الجديدة ما لها وما عليها؟
ستة أشهر على التحرير
الإدارة السورية الجديدة ما لها وما عليها؟
أنس المحمد
“كأنها مبارح” عبارة يصف فيها السوريون يوم الثامن من كانون الأول ٢٠٢٤ يوم التحرير وسقوط النظام البائد،
وعلى الرغم من دخول سوريا شهرها السادس ومرور 5 أشهر على ذلك اليوم إلا أن السوريين لا زالوا فخورين بذلك النصر العظيم والخاتمة المجيدة لازالوا يحتفلون في دواخلهم.
أين وصلت سوريا بعد ستة أشهر من التحرر والتخلص من المجرم والطاغية بشار الأسد؟
نحاول هنا ذكر أهم المحطات والتحديات التي واجهت السلطة الجديدة والدولة السورية الجديدة.
أُعلن بعد سقوط النظام مباشرةً عن تشكيل حكومة مؤقتة (تصريف أعمال) برئاسة محمد البشير ؛ وتعتبر هذه الحكومة امتداد لحكومة “الإنقاذ” التي كانت تدير مناطق واسعة في إدلب وقد كان من أبرز التحديات أمامها نقل ملفات الحكومة السابقة، وتعزيز حالة الانتصار وترتيب الجهاز البيروقراطي للدولة، كذلك العمل على ضم المنطقة الشرقية إلى سوريا الموحدة والوصول إلى اتفاق مع “قسد” قوات سوريا الديمقراطية وحقن الدماء السورية.
أَعلن محمد البشير عن حزمة إصلاحات وتغييرات إدارية أهمها قرار زيادة رواتب الموظفين ٣٠٠% أو ٤٠٠% وقد أعلن عنه لاحقاً رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع لكن هذا القرار لم يطبق حتى الآن ولاسباب تتعلق بالعقوبات والتمويل.
بالعودة إلى حكومة تصريف الأعمال فقد كان عبء المحافظة على مؤسسات الدولة مسؤولية كبيرة جداً على عاتق الإدارة الجديدة مع تفريغ البنك المركزي وعدم وجود احتياطي أجنبي أو ذهب وتآكل المؤسسات الإدارية والخدمية نتيجة تغلغل الفساد على زمن النظام البائد.
مع هروب الأسد وسقوط نظامه وفرحة النصر التي عاشها السوريون بدأت تتكشف معالم الدولة المهترئة أيام النظام السابق الذي مهد لفئة كبيرة من مختلف الشرائح السورية للمشاركة في الفساد وإنشاء مجموعات تشبيح “لوبيات” تعتاش على الأتاوات وتجارة المخدرات والإفساد الاجتماعي؛ برزت من هذه الفئة أصوات مبكرة ترفض حكم الإدارة الجديدة تحت شماعة “الإسلام السياسي أو الجهادي” لكن سرعان ما تلاشت فقاعة “العلمانية” المصطنعة بفضل إعلام موازي للإدارة الجديدة وهو ناشطو الثورة وإعلاميّها الذين فضحوا بعض خيوط اللعبة التي طبخت على عجل لتقويض حكم الشرع “المؤقت” وإدارته المنتصرة.
_تم إطلاق مشاورات لجلسات الحوار الوطني الجامع واستبشر أغلب السوريون خيراً ثم أعلن عنه على عجل وقد وجهت انتقادات واسعة لتأخر إرسال الدعوات وغياب شخصيات وطنية عنه ومع ذلك كان المناخ العام للمؤتمر إيجابياً وسجل البيان الختامي لحظة تاريخية في تاريخ سوريا المعاصر.
في بداية آذار وضِعت الإدارة الجديدة أمام أول اختبار وجودي حقيقي حيث عمدت مجموعات من فلول النظام السابق إلى التخطيط لانقلاب عسكري سريع بمساعدة دول إقليمية للإطاحة بالإدارة الجديدة.
وعندما نقول فلول النظام فالمقصود آلاف وربما عشرات الآلاف يتزعمهم مقداد فتيحة وغياث دلا حيث سيطرت هذه المجموعات على مناطق في الساحل مستغلة لحظة انسحاب معظم القوات الأمنية من الساحل لتسليمه للشرطة المحلية فباغتت النقاط الأمنية والحواجز وسيطرت على مناطق واسعة من الساحل بالتوازي مع حملة إعلامية ممولة من بعض الدول الإقليمية للترويج لنجاح الانقلاب وعودة النظام السابق أو بعض رموزه.
شكلت ما بات يعرف لاحقاً ب “أحداث الساحل” هزة سياسية كبيرة ومصيرية للإدارة الجديدة ومع دخول قوات كبيرة من الجيش السوري الجديد وبعض الفصائل الأخرى ووصول دفعات المتطوعين الشباب من المدن الأخرى حصلت انتهاكات بحق المدنيين من مختلف الطوائف وتبادل الطرفان إلقاء اللوم على الآخر، استغلت بعض الجهات الخلفيةالإسلامية “الجهادية” وموضوع الأقليات والعقوبات الغربية ليكون ثالوث في محاولة لتضييق الخناق هذه الإدارة ومدى نجاحها.
بعد بضعة أيام ووسط احتقان شعبي داخلي كبير وضغوط خارجية متزايدة لحماية الأقليات أُعلن عن اتفاق بين الإدارة الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية في ما بات يعرف باتفاق “الشرع_عبدي”.
شكل الاتفاق مفاجأة للجمهور السوري الذي أثقلته أحداث الساحل على مدى أيام ومفاجأة للخارج الذي ظهرت منه عدد من بيانات التنديد والوعيد ملوحاً بالعقوبات ومحملاً المسؤولية بذلك للطبقة الفقيرة التي باتت تمثل أكثر من ثلثي المجتمع السوري.
وبالرغم من أن اتفاق “الشرع_عبدي” وصف بالهش لكنه ساعد الإدارة الجديدة على الخروج من عنق دوامة أحداث الساحل فعمدت إلى تشكيل لجنة تقصي حقائق والتي بدورها تعرضت لانتقادات واسعة ولم تنتهي مهامها حتى تاريخ كتابة هذه السطور ولم تُعلن نتائج تحقيقاتها.
ومع مسيرات البهجة باتفاق “الشرع_عبدي” وتأبين شهداء الأمن العام والمدنيين من الساحل استطاعت الإدارة الجديدة ضم سورية بأكملها ولأول مرة تحت إدارتها ما شكل نصراً سياسياً لها حتى ذلك التاريخ على الأقل.
تلا اتفاق “الشرع_عبدي” عدة خطوات تباينت بين الاتفاق والخلاف وإلى ساعة كتابة هذه السطور لا يزال الاتفاق غير مستقر تماماً ومُعرض للتعديل أو التغيير.
أعلن في نهاية آذار/مارس بعد تأخر عدة أسابيع عن حكومة جديدة متنوعة و”شاملة” برئاسة الشرع وأيضاً واجهت انتقادات كبيرة من جميع الأطراف تقريباً.
لم يمضِ شهر على تشكيل الحكومة الجديدة حتى تفجرت المشكلة الأخرى التي تم تسكينها بعد النصر مباشرة (الجنوب السوري) ففي أواخر نيسان نُشر فيديو لشاب يقال “درزي” يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تلاه توترات في جرمانا فاشتعل الوضع الامني وامتدت التوترات إلى صحنايا وأشرفية صحنايا ووصلت أرتال مساندة من السويداء وخلال يومين فقط كانت المواجهات بين الأمن العام ومجموعات مسلحة “درزية” في أوجها وانفجر وضع الجنوب من جديد بعد عدة محاولات للتهدئة خلال الشهور الماضية.
تدخلت اسرائيل مباشرةً على خط المواجهة وشنت غارات مكثفة على عدة مناطق سورية وصلت إلى قصف محيط قصر الشعب بدمشق مع تصريحات من أعلى المراكز عن إمكانية توسعة الضربات والغارات حتى انصياع القيادة السورية لمطالب “الدروز” حسب وصفهم.
والحقيقة أن مطلب اسرائيل تحريضي بامتياز فالطائفة نفسها ليست على رأي واحد والسويداء تحتوي على أقلية بدوية مؤيدة لحكومة دمشق وشعار الانفصال مرفوض حتى من أعلى الهرم الديني كمشايخ العقل “الحناوي والجربوع” وأهم فصيل على ساحة السويداء وهو “حركة الكرامة” متمثلة بزعيمه “ليث البلعوس” الذي يعارض حكومة دمشق نوعاً ما لكن يريد ابقاء قنوات اتصال وحوار معها تحت سقف الوطن وسوريا الموحدة حتى التوصل إلى اتفاقات ترضي الجميع وهذا ما حصل بعد مفاوضات وصفت بالماراثونية تدخل فيها أطراف إقليمية كالزعيم اللبناني وليد جنبلاط الذي زار دمشق ودفع باتجاه تسريع الاتفاق وبعد أخد ورد وتنصل من هذه البنود وتلك وتوضيح الموضح وتأويل المفسر أُقر الاتفاق النهائي بين الحكومة السورية ومشايخ عقل ووجهاء السويداء وقد وصف الاتفاق “بالهش” مع وجود أطراف مدعومة اسرائيلياً لإفشال هذا الاتفاق ومن هذه الأطراف زعيم “الطائفة الدرزية” في اسرائيل الذي صرح قبل أيام “أن اسرائيل لم تحمِ الدروز في سوريا” علماً أن الصحافة الاسرائيلية تحدثت عن دعم لوجستي وأسلحة ودعم “إنساني” يشمل غذاء ومواد طبية” بعد الحديث عن هبوط طائرة اسرائيلية في السويداء ناهيك عن القصف الممنهج على مدار يومين على الأراضي السورية تحت ذريعة “حماية الدروز”
دوليا حققت الحكومة بعض النجاحات الدبلوماسية كان أبرزها
عدد من الزيارات لبعض الدول العربية خاصة الخليجية متها
تنسيق عالي المستوى مع تركيا والسعودية
_كذلك كان لزيارة الرئيس الشرع إلى فرنسا نجاحاً دبلوماسيا باعتبارها الزيارة الأولى إلى الاتحاد الأوربي.
_ نجاح آخر كان برفع علم سوريا الجديد في مبنى الأمم المتحدة.
وبنظرة سريعة على مجريات الستة شهور نرى أن بعد كل خطوة من الإدارة الجديدة تجاه بناء سوريا موحدة هناك خطوة تعرقل تلك الجهود؛ فبعد الانتهاء من جلسات الحوار الوطني وبالرغم من بعض الانتقادات التي وجهت له اشتعلت أحداث الساحل؛ وبعد تشكيل الحكومة الجديدة بأقل من شهر اشتعلت أحداث جرمانا والسويداء؛ ونحن هنا بمقارنتنا لا نُصَوب خطوات الإدارة الجديدة بقدر ما نستهجن عرقلة عجلة البناء بجهود دول اقليمية باتت تستخدم بعض السوريين أداة بيدها لتقسيم سوريا أو الالتفاف على نصر ٨ كانون ٢٠٢٤.
هذا على الصعيد السياسي أما على الصعيد الاقتصادي:
فقد شهدت البلاد انخفاض الأسعار خلال الاشهر الست الماضية مع دخول البضائع التركية إلى الأسواق؛ وارتفعت العملة السورية إلى النصف تقريباً منذ شهرين ثم عاودت الهبوط بعد “أحداث” السويداء.
وواقع الخدمات لم يتغير كثيراً مع استمرار وجود أغلب العقوبات الغربية وهذا لا ينفي عدم إلغاء بعضها من الاتحاد الأوربي وبريطانيا بشكل خاص مع استمرار التعنت الأمريكي الرافض الاعتراف بالإدارة السورية الجديدة.
تحسنت الكهرباء قليلاً في دمشق وبدأت مشاريع صغيرة لإعادة الإعمار وعادة قرابة مليون سوري إلى وطنهم؛ وتم افتتاح قناة الإخبارية السورية منذ أيام بعد غيابها عن المشهد بعد التحرير وكانت قد تعرضت وزارة الإعلام لانتقادات واسعة بهذا الشأن.
أما باقي الأصعدة كنقابة الفنانين واتحاد الكتاب العرب ودار الإفتاء فقد تم تعيينهم من قبل رئاسة مجلس الوزراء لفترة انتقالية “حسب وصفهم” مع مطالبات بإجراء انتخابات لكل نقابة أو مؤسسة على حدى.
ولا ننسَ السلطة الرابعة “الإعلام والصحافة” فقد فتحت الإدارة الجديدة أبواب سوريا أمام الصحافة العربية والعالمية دون قيود سلطوية ما فتح المجال إلى الوقوف على المشهد السوري ككل بشكل حر وعاد بفائدة كبيرة على سوريا لأن وسائل الإعلام لجأت إلى تصوير المشهد الذي كان يخفيه النظام البائد وعوض ذلك الإعلام إلى حد ما غياب الإعلام الرسمي الحكومي.
صرح العديد من أعضاء غرفة عمليات “ردع العدوان” بعد التحرير أن عملية ردع العدوان لم تكن تحمل توقيت زمني سريع لتحرير دمشق وهذا ما بدى واضحاً لاحقاً في الضعف الاستخباراتي وبنك المعلومات عن شبيحة ورموز النظام السابق التي أوغلت بدماء السوريين ما نتج عنه الكثير من الأخطاء في التعاطي مع هؤلاء الشبيحة وولد احتقان شعبي كبير تعاطت معه الإدارة الجديدة بحكمة تارة وبتجاهل مرات أخرى وهذا لا ينفي أنها قد اعتقلت الكثير من القيادات الأمنية والشبيحة إلى أن ما يسجل على الإدارة الجديدة غياب أي محاكمات قضائية علنية أو غير علنية مما أفرز الكثير من حالات الانتقام الشعبية في الفترة الثلاث أشهر الماضية.
أما على الصعيد الشعبي فقد تفجر احتقان المنع السياسي لمدة خمسة عقود في وجه الإدارة الجديدة وأصبحت الآراء والمواقف و”الترندات” والإشاعات فعل يومي أثقل كاهل الإدارة الجديدة وحملها مسؤولية كبيرة في سبيل صون الحريات وفض النزاعات الأهلية والخلافات المجتمعية القديمة.
هرب المجرم بشار الأسد من سوريا وكان آخر ما فعله إفراغ البنك المركزي السوري من الذهب والقطع الأجنبي بعد أن أفرغ سوريا من السوريين (شبابها وأهلها وتاريخها) وأفرغ ثرواتها بعد أن باعها للدول التي تحميه ودمر الحجر والشجر والإنسان لكنه فوق هذا كله لم يكتفِ بكل ما ذكرناه بل ترك وراءه مجتمع سوري منقسم انقسام عميق بين مكوناته العرقية والدينية والإثنية وهذا كان أهم سبب و أكبر تحدي واجهته الإدارة الجديدة التي كان من الممكن أن تكون في وضع أفضل الآن لولا هذا الانقسام الذي ساهم في المزيد من سفك الدم السوري وتأخر تطبيق مبدأ السلم الأهلي وفق منطق الدولة الحديثة وبالضرورة ووفقاً للشروط الغربية تَأخُر رفع العقوبات وبقاء السوريين بين خط الفقر والجوع وخط الأمل والانتظار.