وثائق السفارة الإيرانية في دمشق: كيف انهارت أحلام إيران في سوريا بعد سقوط الأسد؟
طهران
الشرق نيوز
لم يكن سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 مجرد تحول سياسي في المنطقة، بل مثّل نقطة النهاية لمشروع إيراني ضخم كان يهدف إلى تحويل سوريا إلى مستعمرة اقتصادية وقاعدة استراتيجية دائمة في قلب المشرق العربي. الوثائق التي عُثر عليها في السفارة الإيرانية المنهوبة بدمشق، والتي كشفتها وكالة رويترز، أظهرت حجم الطموحات الإيرانية التي سقطت مع انهيار النظام السوري، وكيف تحولت سوريا من جسر للنفوذ الإيراني إلى ساحة خسائر مالية وسياسية وعسكرية.
خطة مارشال إيرانية… حلم لم يتحقق
خططت إيران، مستلهمة من تجربة خطة مارشال الأميركية، لاستثمار ما يصل إلى 400 مليار دولار في مشاريع بنية تحتية ضخمة في سوريا بعد الحرب. ركزت هذه المشاريع على بناء محطات كهرباء (مثل محطة اللاذقية بقيمة 411 مليون يورو)، وجسور سكك حديدية (مثل جسر الفرات الذي دُمّر بضربة أميركية)، ومشاريع نفطية وزراعية. كان الهدف هو ربط الاقتصاد السوري بإيران وجعل دمشق تعتمد كلياً على طهران في كل شيء من الطاقة إلى الاتصالات.
لكن هذه الاستثمارات واجهت منذ البداية عراقيل ضخمة: الفساد المستشري في مؤسسات النظام السوري، البيروقراطية المعقدة، سرقة المعدات، وتغير شروط العقود بشكل مستمر. حتى المشاريع التي أُنجزت جزئياً بقيت متوقفة أو تعمل بطاقة منخفضة بسبب نقص التمويل والصيانة. ومع سقوط الأسد، ضاعت معظم هذه الاستثمارات، ولم تستطع إيران تحصيل ديونها أو حماية موظفيها وشركاتها.
النفوذ العسكري والأمني: من التوسع إلى الانسحاب
دعمت إيران الأسد عسكرياً منذ بداية الحرب الأهلية، وأرسلت آلاف المقاتلين من الحرس الثوري وفيلق القدس، وأسست ميليشيات محلية وأجنبية مثل “فاطميون” و”زينبيون”. أنشأت قواعد عسكرية ونقلت أسلحة متطورة إلى سوريا، وجعلت من البلاد ممراً للأسلحة إلى حزب الله في لبنان.
لكن مع تصاعد ضربات إسرائيل الجوية وتزايد هجمات المعارضة السورية، أصبحت القواعد الإيرانية أهدافاً مكشوفة. وبعد سقوط الأسد، اضطرت إيران إلى سحب قواتها وميليشياتها بسرعة، تاركة وراءها معدات عسكرية ووثائق سرية تم نهبها أو تدميرها.
البعد الثقافي والديني: مشاريع التشييع تحت الأنقاض
سعت إيران إلى تغيير الهوية الثقافية والدينية لسوريا من خلال بناء الحسينيات والمدارس الدينية، خاصة في محيط مقام السيدة زينب جنوب دمشق. كما منحت الجنسية السورية لآلاف الإيرانيين الذين استوطنوا في دمشق وحلب. لكن مع انهيار النظام، تعرضت هذه المراكز لهجمات وانتقامات شعبية، وتم إغلاقها أو نهبها.
الفساد والعقوبات: عوائق قاتلة
واجهت الشركات الإيرانية في سوريا تحديات هائلة بسبب الفساد السوري وغياب الشفافية، حيث طلب المسؤولون السوريون رشاوى ضخمة لتسهيل العقود. كما منعت العقوبات الغربية التحويلات البنكية وأجبرت الشركات الإيرانية على التعامل بالنقد أو عبر وسطاء، ما أدى إلى خسائر إضافية. حتى شركة “مپنا” الهندسية العملاقة عانت من عدم دفع مستحقاتها، واضطرت لتمويل مشاريع ضخمة دون ضمانات.
محور المقاومة… من القوة إلى الانهيار
كان المشروع الإيراني في سوريا جزءاً من استراتيجية “محور المقاومة” الذي شمل العراق ولبنان وفلسطين. لكن مع سقوط الأسد، تعرضت هذه الشبكة لضربات قاصمة: إسرائيل كثفت هجماتها على مواقع الحرس الثوري وحزب الله، وقتلت عدداً من القادة البارزين. كما سارعت دول كتركيا وإسرائيل لملء الفراغ السياسي والعسكري في سوريا.
شهادات من الداخل: خسائر بشرية واقتصادية
أظهرت مقابلات مع رجال أعمال ومهندسين سوريين وإيرانيين حجم الخسائر: فقدان ملايين الدولارات في مشاريع متوقفة، وسرقة معدات، وفقدان وظائف لعشرات السوريين الذين كانوا يعملون مع الشركات الإيرانية. أحد المهندسين السوريين قال: “كانت إيران هنا، وكسبت رزقي منها لفترة، لكن كل شيء انتهى فجأة”.
نهاية الحلم الإيراني
أثبتت تجربة إيران في سوريا أن بناء إمبراطورية اقتصادية وعسكرية عبر الحروب والوكلاء محكوم بالفشل. تحولت سوريا من منصة للنفوذ الإيراني إلى مقبرة للطموحات، مع ديون ضخمة، مشاريع متوقفة، وعداء شعبي متزايد. سقوط الأسد كشف هشاشة التحالفات القائمة على المصالح المؤقتة، وأظهر أن الشعوب لا يمكن إخضاعها بالقوة أو المال. اليوم، تواجه إيران عزلة إقليمية وضغوطاً داخلية متزايدة، بينما بدأ السوريون رحلة إعادة بناء بلدهم بعيداً عن التدخلات الأجنبية، حاملين جرحاً عميقاً سبّبته سنوات الاحتلال الإيراني.