الجسر المعلّق
إعادة بناء الذاكرة
أنس فتيح
في قلب كل مدينة حكاية
وفي قلب دير الزور… حكايةٌ انكسرت على ضفة نهر.
هل يمكن لمدينةٍ أن تُشفى إن لم يعاود قلبها الخفقان؟
وهل يمكن لذاكرتنا أن تتعافى، إن لم نُعد بناء ما كُسر فينا؟
ذاكرتنا
كان الجسر المعلّق في دير الزور أكثر من مجرد هيكل معدني يمتد فوق نهر الفرات، كان شاهداً على الحياة، وعلى الحب، وعلى الرحيل، وعلى العودة، كان مكان اللقاء، والانتظار، كم مراهقاً أُلهم قصائده الأولى وهو يتكئ على أسواره المبللة بندى الصباح وكم أغنية رنمت على صرير ألواحه.
كان الجسر مدرسةً للشجاعة وملعباً للفتوة، ففي عصريات الصيف الحارّة، كان شباب الدير يتحدّون بعضهم بالقفز من منتصف الجسر، حيث يتمسكون بحبال الجسر هنيهة وأقدامهم ما تزال على أطرافه قبل أن يندفعوا بجرأةٍ إلى أحضان الفرات، وسط صيحات التشجيع، أما الأشدّ بأساً فكانوا يصعدون سلالم السواري الحديدية، حتى يبلغوا القمة حيث يصبح العالم تحت أقدامهم كخريطة مرسومة بالماء والضوء، هناك، عند ذروة المجد، كانوا يقفزون بقلوب لا يعرف الخوف طريقاً لها.
لم يكن عبثاً أن اختارت جامعة الفرات الجسر المعلق شعاراً رسمياً لها، فلا نكاد نتخيل صورة لنهر الفرات يتهادى في مجراه في المدينة إلا والجسر المعلق ممتد فوقه،
قد تحول الجسر بمرور الزمن إلى كائنٍ حي في مخيلة أهل المدينة، كل ديري يحمل في قلبه قصة مع هذا الجسر، كل عائلة لديها ذكرياتٌ في جنباته.
وانهار المعلق:
بعض اللحظات لا تُنسى، ذلك اليوم المشؤوم في الثاني من أيار من عام ألفين وثلاثة عشر عندما سقط المعلق،
لا لم يسقط وحده تحت وطأة الزمن، ولا، تدميره لم يكن من آثار الحرب كما يحب البعض أن يختصر ويزور، بل كان جيش المجرم الفار هو من فجر دعامته الثالثة بشكل متعمد ومباشر مما أدى إلى سقوطه، كان المشهد أبعد من دمار مادي ، كان الهدف اغتيال هوية المدينة التي ثارت ضده ومسحَ ذاكرتها الجمعية.
انهار الجسر وكادت أن تنهار أرواحنا معه، انهار المعلّق ليصبح ألما غائراً ينزف في قلوبنا.
لكن الثورة علمتنا أن الألم لا يمرّ بلا ثمن، وأن الجروح هي التي تصنع القصص الأشد صدقاً و الأكثر خلودا.
أمال البناء:
نحن لا نملك رفاهية النسيان، ولا يجب أن نُختزل في كوننا ضحايا، نحن ناجون، نحن منتصرون، نحن رواة الحكاية، لنا الذاكرة والمستقبل، ولنا إرادة الحياة، ولنا شغف بإعادة بناء ما دمّره المجوس، كل حجر نعيده إلى مكانه، كل سارية تُنصب من جديد، شهادة نلوح بها على أن دير الزور لا تزال هنا، تنبض بالحياة رغم أنف الطاغية وأبيه.
وفعلاً وما أن مَنَّ الله علينا بالفتح والتحرر من ميليشا الأسد، حتى بدأت بعض المحاولات الجادة لإعادة إحياء هذا الأثر، بعض رجال الأعمال من أبناء المدينة تعهدوا بتمويل جزءٍ كبير من عملية الإعمار، منهم من قرر السفر لفرنسا بحثاً عن مخططات الشركة المنشئة، بعض المهندسين القدماء الذين شاركوا في صيانة الجسر أيام مجده يسجلون الآن ذكرياتهم لضمان عودته بنفس السمت.
بعض المقترحات تطرح تحويل الجسر إلى متحف مفتوح، تتشارك فيه وزارتا الثقافة والسياحة وبدعم من اليونسكو، حيث تُعرض صورٌ للدير العتيق والأسواق القديمة على جوانبه، صور لشهداء سوريا الذين صنعوا فجر الحرية، وصور لأبناء المحافظة المتفوقين، رسومات لفنانين سوريين على جانبي الجسر، تحكي عن التراث والثورة والحياة اليومية، ويمكن تثبيت نقاط تفاعلية على طول الجسر، يفتحها الزائر بهاتفه، لتأخذه إلى صورٍ أرشيفية أو مقاطع فيديو لمعالم المحافظة التاريخية وتشغل صوتيات تحكي ذكريات الأهالي والأغاني الفراتية.
و قد تُجرى مسابقاتٌ لفن النحتِ، تُنتجُ تحفاً تخلدُ مَجدَ هذا الصرح، ثم تنثر تلك المنحوتاتُ في أرجاء المحافظات السورية لتُزين بعض طرقاتها وتتربع بعض ساحاتها.
ليصبح الجسر أكثر من معبر، يصبح مرآةً لروح المدينة والمحافظة، واحتفاءً بحكاياتها، ودفترا مفتوحاً لذاكرة الفرات.
جسر من الماضي إلى المستقبل:
هل سيتم ذلك حقيقةً وهل يمكن أن يُبنى من جديد؟
والجواب، دائماً، وبكل يقين ، نعم.
فكل ما هُدم، يمكن أن يُعاد ترميمه، لا كما كان، بل كما يجب أن يكون.
نحتاج إلى أن نبني الجسر مجدداً، لا فقط لنتمشى عليه في أمسيات نيسان ونسيمها العليل، بل لنقول لأنفسنا إننا عبرنا الأسوأ، وإننا نستحق جسراً جديداً، يُشبه نضجنا بعد الثورة، ويليق بأرواحنا التي لم تستسلم.
إن إعادة بناء الجسر المعلّق، ليست مجرد مشروع عمراني، بل هي مشروع وطن يريد أن ينهض من تحت الركام أكثر بهاءً وجمالاً، هي خطوة في رحلة استعادة سوريا روحَها وهويتَها وثقافتها و ألقها.
سنبني سوريا المستقبل الذي نريد ونطمح.
د. أنس الفتيّـح
ناشط مدني سوري