الإثنين , ديسمبر 16 2024
الرئيسية / كلام سوريين / نص هادئ مليئ بالضجيج

نص هادئ مليئ بالضجيج

عمر الملا

ليل ..فرنسا 

هربا من الحكايا يا أبي ، قد بعت نصف أوراقي ببعض الابتسامات ، كان الجو عبقا بضباب الذكرى وأنا أحمل إشارات التعجب أهش بها على غبار الماضي مستغربا مني كيف كنت أضع الطين في شقوق الثقة كلما تصدعت بزعزة التوقعات ، وكنت أرجو من هذا الطين روحا ينفخها الله فتعود لترمم ما مضى .

كان بيني وبين أنصاف الحكايا المكتظة بالصمت أنصاف من الهمسات ، فلا بوحا بها قادر أنا به ولا صمتا أعزز به ثقة الوصول لمن ينتظرون مني الكلام ، هي أنصاف يا أبي ، فلست ذلك الابن الذي بمجيئه تختلف الأقدار ولا بذلك الحلم الذي إن بدا بطل التيمم والإجازة ، كنت دائما كأنصاف الأنصاف ، حتى علاقتي مع ربي أنصاف أنصاف مع الناس أيضا ، مع نفسي ، كنت أكتب لها نصف الرواية وأحدثها بما تبقى ، وهي أمية لا تقرأ وصماء لا تسمع ولاهية لا تنصت .
ما كنت منصفا يوما لنفسي كإنصافي لغيري ، فالنصف عندي لا يشابه الآخر ، قد يصل مرات إلى أضعاف ما أصنفه على أنه نصف ، لأنه وببساطة ما أخذه على أنه نصف أعيده إيثارا ككل ما أوتيت قبله وبعده، كمثل ضربات الأوتار ما إن تساوت حتى بَهُتت ، لكن تناغمها النابع من ضرب الريشة هو قانوني في الإنصاف والأنصاف.

أتعرف يا أبي ، لدي من القلق والضجيج ما ينذر قوما ما بشؤم ما على حين غرة ما ، قد مضى منها ما مضى ، فأنا محاط بحروبي التي اخوضها مع نفسي ومع بقايا الروائح الذابلة في أطراف الملابس العتيقة.
ولدي من الذكرى ما يجعلني أنساب مني إليّ كما الروح التي ستغادرني يوما ما ، أبحث عن نفسي وعن تاريخ أصحاب هذه العطور في الوجوه المتكسرة ، في إطارات الخشب ، في انعكاسات الزجاج وطيات القدر ، في رائحة اللوز ولبن التين وتوهج التوت الصيفي ، لست هنا لابد أن أكون مع أحدهم في مكان ما …

كل هذا الضجيج الذي أسمعه في رأسي لن تستطيعوا أن تسمعوه ، تلك الأبواب المواربة والنوافذ المتأرجحة والجدران المتشققة كفيلة بأن تكون مأوى لكل الثعالب والغربان والعناكب الهاربة من دخول الأنبياء ، إلا أني أنا من يسكنها مع صغار البومات من اليعاقيب التي تتلقى الحزن عني رواية عن رواية وسند بمتن جزيل يحمل عبئ سومر وما مضى منه متغلغلا في بيوت القصب النهري.

هذا الضجيج الذي يؤرقني ما إن غاب عني فقدته وكأني أفقد رؤية الأمور بحكمتي التي يزعمون أني امتلكها ، هذا الضجيج الضارب فيّ كجذور الشوك الضمآن، لا أنا أرحل عنه ولا هو تارك لي أمري ، فتراني تارة نازع معطفي ، وتارة أخرى معطفي ينزعني .
هذا الضجيج الذي يتكئ على شكي بكل شيء حتى في نفسي ، أشك في الشمس والغيوم وحبات المطر ، ولا أصدق إلا ألمي الذي يزعزع نومي ويخطف مني لساني الذي أرمم به بعض عثراتي .
لم يكن هذا الضجيج الذي بداخلي يقلقني فكنا سويا منذ أزل ، نتبادل الحوار ويجمعنا حب النساء والضحك بصوت عالٍ في آخر الليل الطويل ، كنا نتحدث سويا عن الموروث والخطاب وأصول التشريع ، والتجديد والتمديد وفراغ الأسلوب من منطق الحوار ، إلا أنه كان يحاكمني مسبقا بوضعي في صورة نمطية لا تخلو من التهكم ، فيرى أننا كرقعة الشطرنج متقاربون متباعدون محاطون ببعضنا البعض ، بخيباتنا وسجلات الهزائم والانتصار .

هذا الضجيج الذي لا ولن تسمعه هو ميراثي الذي قد ينضج يوما.

ما لم يكتبه أحدهم …

شاهد أيضاً

تمشي الرجال

تمشي الرجالُ على وجعِها لتفتحَ طريقاً لضوءٍ ما.. تقطعُ مسافاتِ التّعبِ لتصحوَ ابتساماتٌ مطمئنةٌ.. أشياءٌ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

12 − 4 =