التيارات الإسلامية بين التشدد والإصلاح 2 من 3
عمر المشعان
بعد الحديث عن دور الشيخ المودودي وتأثيره في نشوء التيار المتشدد
لابد من البحث عن الجانب الآخر من التيارات الإسلامية التي تمتلك رؤية إصلاحية، وهنا لابد من الحديث عن رائد الإصلاح الشيخ محمد عبده و تأييده للاستبداد ضمن نهج إصلاحي :
هذه القراءة ضمن سلسلة قراءات تُعنى بكُتاب و مفكري عصر النهضة في الشرق الإسلامي , و مرحلة تطور خطابهم ضمن المجال الفكري الإسلامي , و هنا لابد أن نمر على إثنين من رواد الإصلاح و اللذان تركا أثراً هاماً و فارقاً في الفكر الإسلامي والعربي الحديث , و سجلا إسميهما في محل للنزاع لدى الكثير , فكانا مسعى نزاع متأرجح لا يمكن فهمه بالعناوين , بل بدراسة متعمقة في جوهر كتاباتهم و في ظلال معرفتهم , فالباحث اليوم عليه أن يعرف النهج الذي انتهجه كلاً منهما لمعرفة صحةما بين يديه من الوثائق أو حقيقة ما يُروى عنهما .
يأتي هذا في السياق منهجية البحث العلمي , و التي بدورها تسعى لإظهار ما يجب إظهاره و وضع ما يجب وضعه و ليس تلفيقاً بل اجتناباً للزور و التدليس .
فكان اسما كلاً من الأفغاني و محمد عبده عبارة عن متلازمة إشكالية على مدار القرن العشرين , و ذلك تبعاً للعناوين المبتذلة إعلامياً و التي تخلو من المنهجية البحثية و الأمانة التاريخية بالنقل .
بين الأفغاني ومحمد عبده
الأفغاني هو معلم الشيخ محمد عبده , و الذي كان إصلاحياً بمذهبه و فكره , و كان أستاذه ثورياً بفكره و ممارساته , و هنا يبدأ الفرق .
من هو جمال الدين الإفغاني ؟
ولد جمال الدين الأفغاني عام 1838 في بلدة أسعدآباد غربي العاصمة الأفغانية كابول. ويحمل لقب سيد لانتماء أسرته للأشراف كما يُعرف عنهم .
كان الأفغاني متفوقاً في دراسته منذ طفولته و أيضاً عُرف بإجادته عدة لغات من بينها العربية, وصل لمناصب بارزة في شبابه و كان أهمها موقع رئيس الوزراء في أفغانستان في عصر الملك محمد أعظم خان , و الذي تولي الحكم عام 1862 ، ولكن عندما وقعت الحرب الأهلية بين أفراد العائلة الحاكمة, و انتهت باحتلال الأمير شير علي خان “شقيق محمد أعظم خان” والمدعوم من البريطانيين لكابول عام 1868.
رحل الأفغاني عقب ذلك إلى الهند , حيث فرض الإنجليز حصاراً حول بيته لمنع لقائه بالعلماء و الأتباع المسلمين , وبعد شهر تم ترحيله عن طريق البحر إلى مصر, و منها اتجه إلى اسطنبول و ذلك في عهد ” السلطان عبد العزيز ” الذي أحسن استقباله لكن ما لبث حتى نفر منه و أبعده عن مجلسه عندما شكك بعض المقربين من السلطان في عقيدته و قالوا فيه عند السلطان أنه يزعم أنه قال إن النبوة تأتي بالاكتساب , فعاد الأفغاني بعد ذلك إلى لمصر , لتكون بداية رحلته الفكرية و السياسية .
وصل الأفغاني إلى مصر في مارس/آذار 1871 و لقي ترحيبا من الدولة ومنحته الحكومة منزلاً و راتباً سخياً.
لكن نتيجة نشاطه السياسي قام الخديوي توفيق بنفيه إلى الهند و بقي هناك لعدة سنوات ثم توجه إلى فرنسا و بقي هناك إلى أن أرسل في طلبه السلطان العثماني ” عبد الحميد “
عام 1892 إلى اسطنبول , فذهب و هو يتوقع أنه يستطيع وضع بيان لتشكيل الجامعة الإسلامية بدعم السلطان , لكن السلطان انقلب عليه بعدما ارتبط اسمه بعملية اغتيال “الشاه القاجاري ناصر الدين” و ذلك بأنه قُتل على يد أحد تلاميذ الأفغاني ، فقضى عامه الأخير سجين في بلاط السلطان .
يُقال أن طبيب الأسنان الذى كان يعالجه دس له السم فتوفي عام 1897 ودفن في اسطنبول .
من هو الشيخ محمد عبده ؟
ولد الإمام محمد عبده في عام 1849 من أب تركماني الأصل , و أم مصرية تنتمي إلى قبيلة بني عدي العربية ، ونشأ في قرية محلة نصربمحافظة البحيرة .
أرسله والده إلى كُتاب القرية ليتلقى دروسه , و في سن الخامسة عشر تقريباً , التحق بالجامع الأحمدي بطنطا . حيث حفظ القرآن و تجويده و تلقى علوم الفقه و الشريعة و تعلم اللغة العربية و علومها , ثم انتقل بعد ذلك للدراسة في الأزهر في عام 1865 . تلقى في الأزهر علومه المختلفة فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة , و استمر في الدراسة حتى حصل على شهادته العلمية عام 1877 .
تلقى بعدها الشيخ محمد عبده العلوم العامة على يد بعض المعلمين مثل الشيخ ” درويش خضر” , ثم تعرف على الشيخ “حسن الطويل” الذي كان على دراية ببعض العلوم مثل الرياضيات والفلسفة وتلقى على يديه عدداً من الدروس , ثم التقى بعد ذلك بمعلمه جمال الدين الأفغاني , و تابعا طريقهما في البحث العلمي و الدعوة و الإصلاح إلى أن افترقا .
عمل الشيخ محمد عبده بالتدريس في الأزهر الشريف , و قام بتدريس المنطق والفلسفة والتوحيد فيه , كما قام بالتدريس في مدرسة الألسن .
كما عمل بالصحافة و كان يكتب في جريدة الوقائع المصرية و التقى خلال عمله هناك ببعض الشخصيات الهامة مثل سعد زغلول و محمد خليل , و كان الشيخ محمد عبده يقوم بمهمة التحرير والكتابة في القسم الخاص بالمقالات الإصلاحية الأدبية والاجتماعية .
كان الشيخ محمد عبده ينتمي إلى تيار حركة الإصلاح , و الذين يرون أن الإصلاح يكون من خلال نشر التعليم بين أفراد الشعب والتدرج في الحكم النيابي .
و كان سعد زغلول أيضاً من مؤيدي هذا التيار , و الذي كان أيضاً يخالف التيار الانفتاحي نحو الغرب الذي ينادي بالحرية الشخصية تيمناً بالغرب و الأوربيين و ذلك تبعاً لآراء منتسبيه من الذين تلقوا تعليمهم في الدول الأوربية مثل ” أديب إسحاق ” .
بعد فشل الثورة العرابية تم الحكم بالنفي لمدة ثلاث سنوات على الشيخ محمد عبده لأشتراكه فيها , و ذهب إلى لبنان و بقي في بيروت لمدة عام تقريباً قبل انتقاله إلى باريس للقاء أستاذه الأفغاني الذي أرسل في طلبه .
عاد إلى بيروت حيث قام بتأليف عدد من الكتب , و عمل بالتدريس في بعض مساجدها , ثم انتقل للتدريس في “المدرسة السلطانية” في بيروت , و قام حينها بشرح ” نهج البلاغة” و ” مقامات بديع الزمان الهمذاني”.
صدر عفو عن محمد عبده بعد ست سنوات قضاها في المنفى و ذلك بعد الوعود الكثير التي قطعها للإنكليز باعتزاله العمل السياسي و نيته بالتفرغ للعلم .
تم تعيينه قاضياً أهلياً في محكمة “بنها” ثم “الزقازيق” ثم “عابدين” .
قام أيضاً بترجمة كتاب في التربية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية بعد اتقانه للغة الفرنسية أثناء إقامته في باريس .
تم تعيينه بمنصب ” مفتي البلاد ” بشكل منعزل عن الأزهر عام 1899 في عهد الخديوي ” عباس حلمي ” .
كان هناك خلاف قائم بين الخديوي عباس حلمي و الشيخ محمد عبده , دفع بالشيخ إلى ترك منصبه عام 1905 بعد ست سنوات من توليه منصبه , و اشتد عليه مرضه في الاسكندرية , و توفي هناك في يوليو \ تموز 1905 .
لم يكن الشيخ محمد عبده بذلك الشخص الذي يمر اسمه في عصر النهضة دون الوقوف على أعماله و آثاره , و لربما السبب الأكبر لاستذكاره في العصر الحديث هو تعدد الموضوعات التي اشتغل بها , لكن حقيقة تُقال في حقه من قبل العشرات من المفكرين و الباحثين أنه رجل كانت كتاباته سابقة لعصره , و كأن الوصايا التي كان يضعها و ينادي فيها تسبق أوآنها , حيث يعتبره البعض مفكراً من مفكري العصر الحديث , لأن أفكاره و آرائه لم تكن مطبقة حتى في أوربا في أواسط القرن العشرين , ولذلك سُميَّ سابقا لعصره .
رحلة الشيخ محمد عبده و الأفغاني و النتاج المعرفي بينهما :
يلتقي كلاً من الأفغاني و تلميذه الشيخ محمد عبده في ” النتيجة ” ألا و هي التحرر من الاستعمار , لكن كيف ؟
يرى الأفغاني أنه لا بديل عن الثورة العامة على كافة رموز الاستعمار و الطغيان لتحقيق وحدة إسلامية شاملة تضم جميع البلاد الإسلامية في العالم , لتصنع بوحدتها سداً منيعاً لهذه البلاد .
و لربما للوهلة الأولى يظهر الأفغاني و كأنه من الذين يسعون لحرق المراحل التجديدية و يطالب بفعل واحد للحصول على عدة نتائج .
و هو فعل الثورة و نتائجها من تحرير البلاد من الاستعمار و طرده و النهوض بالمجتمع و الحصول على الوحدة الشاملة .
لكن بإطلالة على بعض أعماله , سنرى أنه يتكلم بالأفكار الرئيسية لا بالتفاصيل , حيث هو ينادي بالإصلاح العام في نتاج ثوري منظم , و فتح المكامن المغلقة في التراث الإسلامي بما يخدم الثورة و تطور البلاد .
كان هناك تناغم أدبي فكري بين التلميذ و أستاذه و هذا التناغم الذي دفع بهما إلى قائمة الأسماء المسجلة في التاريخ الحديث , فكان الشيخ محمد عبده أيضاً موفر الكتابات متعدد المواضيع و الموضوعات , فكتب المئات من المقالات و الأبحاث و الرسائل و الكتب و منها ” مصر و اسماعيل باشا ” و ” التعصب ” و ” بين الفلاسفة و الكلاميين ” و ” موقفي من الثورة ” و ” تاريخ الأحداث العرابية ” , و بالإضافة إلى مجموعة من الرسائل السياسية و الدينية و أهمها ” رسالة إلى جمال الدين الأفغاني ” و ” رسالة إلى بلنت ” و ” رسالة إلى برودلي من بيروت ” و ” رسالة الواردات في سر التجليات ” و ” رسالة المدبر الإنساني و المدبر العقلي الروحاني ” , بالإضافة إلى كتاباته المتعددة الموضوعات في الصحافة و أهمها في العروة الوثقى .
و كان هناك كتاب قد اشترك فيه كلا من الأفغاني و محمد عبده و هو ” التعليقات على شرح الدواني للعقائد العضدية ” , و بعد الإطلاع على نتاجهما المعرفي نجد أن أغلب ما كانا يكتبانه نابع من مشكاة فكرية واحدة و أن المنهج السائد في أعمالهما هو المنهج البحثي المبني على الثقافة المسبقة و العلم السابق في الأشياء دون الرجوع إلى مصادر بحثية بل هما يعتبران ثقة في النقل و التدقيق و ذلك لكثافة و غزارة إنتاجهما المعرفي .
لكن في الحقيقة قد يكون الأفغاني قد اتجه أكثر نحو الفلسفة و الفكر المتجدد المعولم , و إن ما دار حول شخصيته و خطابه الفكري , ليس إلا استقراء بعد معرفة الأمور التي اشتغل بها و كتب عنها .
فهو كاتب موفر , كتب في التاريخ و الفكر و الفلسفة و التفسير و كتب في السياسة , فتعددت موضوعاته و كان له أثر بالغ حتى اليوم , فكتب في التاريخ ” البيان في تاريخ الأفغان “, و ” التعليقات على شرح العقائد العضدية ” , و كتب العديد من الرسائل مثل : مرآة العارفين , الواردات في سر التجليات , القضاء و القدر , فلسفة التربية و فلسفة الصناعة , العلم و تأثيره في الإرادة و الاختيار , و سميت هذه المجموعة من الرسائل “رسائل في الفلسفة و العرفان ” , و كان له بحث خاص كتبه في الفارسية و ترجمه الشيخ محمد عبده إلى العربية و هو ” الرد على الدهريين “.
في الوقوف على آثاره سنجد أنه عالج الإرث الإسلامي بشكل معاصر و دعا إلى تطويره كفكرة وحدوية نهضوية تؤثر على السلوك المجتمعي الإسلامي و دعا إلى محاربة الإرث المنسوب إلى الإسلام و الموصوف بالخرافات و الخزعبلات .
و هذا يدل على أنه عالج الإرث الإسلامي من منظور فكري واضعاً فيه آراءه السياسية الداعية للتغير الجذري و التجديد الإصلاحي .
ظلت أفكار الأفغاني رهينة نفسه حتى تنقل بين البلدان و ذاع بها و ذاع صيته معها أيضا , فكان الضيف المقرب من الولاة و الأمراء و السلاطين و ذلك إما خوفا منه و لمحاولة استيعابه , أو الإقتناع بأفكاره و تأييدها .
فتنقل بين الهند و أفغانستان و إيران و اسطنبول و لبنان و مصر و فرنسا .
و كان له جماهير و شعبية واسعة في كل مكان يذهب إليه .
و لعل الثقل الأكبر من جماهيره و مؤيديه كان في مصر .
و كان لهذه الجماهير دور في بروز دور الأفغاني في تاريخ مصر الحديث .
هذا و عندما دعا الأفغاني الخديوي إسماعيل في مصر إلى التنازل عن الحكم و إقامة حكومة ( شورية ) تقوم على أساس الشورى و إقامة المجالس البرلمانية إلا أنه رفض هذه الدعوة .
في حين قام الخديوي توفيق بالتواصل مع الأفغاني قبل عزل والده الخديوي إسماعيل , و أبدى ميوله للحكومة الشورية و المجالس البرلمانية في حال تولى حكم مصر بعد والده .
مما أدى لدعوة الأفغاني لأعضاء الحزب الوطني الحر و مؤيديه و تلاميذه لدعم الخديوي توفيق , و الذي تولى الحكم فعلاً بعد عزل والده إلا أنه تنكر لوعوده للأفغاني و اتبع وصايا الإنكليز و تحديداً قنصل بريطانيا في مصر و الذي قد أخبره بضرورة نفي الأفغاني خارج البلاد وفعلاً قام الخديوي توفيق بذلك .
بعد توليه الحكم في مصر وتحسباً لتأثير الأفغاني على الوضع السياسي قرر الخديوي الجديد نفيه في 24 أغسطس/آب عام 1879 إلى الهند .
يقول الأفغاني حول التغير السياسي في البلاد أثناء إقامته في مصر :
” إن القوة النيابية لأية أمة كانت , لا يمكن أن تحوز المعنى الحقيقي إلا إذا كانت من الأمة نفسها . و أي مجلس نيابي يأمر بتشكيله ملك أو أمير أو قوة أجنبية محركة لها , فاعلموا أن حياة تلك القوة النيابية الموهومة موقوفة على إرادة من أحدثها ” .
و يقول واصفاً الشعب المصري في كلمة يلقيها للخديوي توفيق الذي أنكر وعوده له :
” إن الشعب المصري كسائر الشعوب , لا يخلو من الخامل و الجاهل بين أفراده , و لكنه غير محروم من وجود العالم و العاقل . فبالنظر الذي تنظرون به إلى الشعب المصري و أفراده , ينظرون به لسموكم , و إن قبلتم نصح هذا المخلص , و أسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى فتأمرون بإجراء انتخاب نواب عن الأمة تسن القوانين و تنفذ باسمكم و بإرادتكم , يكون ذلك أثبت لعرشكم و أدوم لسسلطانكم ” .
لم تتوقف الحركة السياسية بعد نفي الأفغاني بل ازدادت توسعا و قوة .
يتمثل التوسع بثلاثة تيارات قوية قد نشأت و تشكلت على خلفية نفي الأفغاني و هي :
الأول : التيار العسكري من تلاميذ و مؤيدي الأفغاني في الجيش و تمثل في تيار الضباط ” الشراكسة ” .
الثاني : هو تيار النديم و زعيمه ” عبدالله النديم ” و فيه بعض تلاميذ الأفغاني و مؤيديه من العمال و الفلاحين و يعتبر هذا التيار هو ذو الحشد الجماهيري الأكبر لقربه من الطبقة العامة غي مصر .
الثالث : هو التيار الإصلاحي و الذي كان فيه نخبة العلماء و المفكرين في مصر , و كان منهم محمد عبده و سعد زغلول و سلطان باشا و حسن الشريعي الخ .
و كان لهذا التيار توجه ثوري في التوقعات و منهج إصلاحي في السلوك .
فهو لا يشبه باقي التيارات الثورية التي تريد الثورة للإصلاح بل على العكس كان لسلوك هذا التيار و منهجه رؤية أخرى ألا وهي الإصلاح في سبيل الحصول على الثورة و التجديد .
و هذا يعني بحسب منظورهم أو تحديداً منظور الشيخ محمد عبده , أن هذا المسار الإصلاحي يمر عبر تهيئة الكوادر و إصلاحها و متابعة الأجيال و توعيتها و التقرب من الطبقات على اختلافها و تقربها من نص الإصلاح و بنوده و دعائمه حتى يصبح هناك قدرة جماهيرية للعمل السياسي المتكامل و الذي بالنتيجة يكون قادرا على الثورة و دعمها حتى تحقق ذاتها .
كيف اختلف موقف الشيخ محمد عبده بعد الثورة العرابية ؟؟
بعد تبني الشيخ محمد عبده نظريته الإصلاحية و أكد موقفه هذا بعد ارتفاع الخطاب الثوري في 1879 إلى 1882 و اندلاع الثورة العرابية في ذات السنة ضد الخديوي توفيق و ضد التدهل الأجنبي .
فالشيخ محمد عبده تقرب من القيادات و شاهد مواقفهم الثورية و حماسهم و التأييد الجماهيري لهم , إلا أنه رغم هذا التأثر لم يترك منهجه الإصلاحي و ذلك تحديداً عندما عاد إليه بعد فشل الثورة العرابية و ملاحقة قياداتها .
و لكن رغم عودة الشيخ محمد عبده إلى منهجه و تياره الإصلاحيين إلا أنه قد تأثر بالثورة العرابية , و لاحظ النمو المعرفي في صفوف الجماهير , بطولة القيادات النخبوية و الشعبية إبان الثورة و ثبات مواقفهم مما دفع به إلى إضفاء سبغة جديدة في كتاباته الصحفية , فقد تكلم عن القيمة الثورية و دور المعرفة في عملية التقدم و النهضة و الإصلاح , فكتب في أحد خطاباته بعض المطالب التي يرى فيها دمج التياريين معا أي الإصلاحي و الثوري , فكانت :
إقامة مجلس النواب , حرية التعبير و المطبوعات بصورة ملائمة للبيئة السياسية , تعميم التعليم و المعارف للجميع دون إستثناء .
هذه النظرية لم تتكون لدى الشيخ محمد عبده من فراغ , فهو بعد أن تتلمذ على يد الأفغاني و اشتغاله في مجال التدريس و الصحافة لسنتين قبل نفي معلمه الأفغاني , فلم يكن هذا الوقت كافياً لتكوين موقف سياسي حازم اتجاه هذا القرار , فاكتفى بمراسلته و متابعة أخباره .
في ذلك الحين بالنسبة للأفغاني و تحديداً عندما بدأت الثورة العرابية في مصر عام 1882 , نُقل الأفغاني من “بومباي” إلى “كلكتا” حيث حددت السلطات البريطانية إقامته حتى انتهت الأحداث باحتلال الجيش البريطاني لمصر , وعندها سمحت له السلطات بالسفر إلى حيث يشاء فتوجه إلى فرنسا .
و عندما وصل الأفغاني إلى باريس في فرنسا و اشتغاله بالصحافة , أرسل في طلب تلميذه عبده للالتحاق به و العمل معه في ذات المجال .
فساعده في إنجاز ( العروة الوثقى ) و التي تعتبر نتاج الإثنين معاً , فهي جماهيرية تصل للجميع من فلاحين و طبقات نخبوية و الجميع ينتظرها بشغف بشكل يرضي الأفغاني , و فيها توجيه و نقاط و موضوعات إصلاحية تدعو للتجديد و التغيير بشكل يرضي الشيخ محمد عبده و فكره الإصلاحي , و كانت غنية أدبياً و فكرياً متعددة المواضيع .
و تأتي هذه الخطوة بعد فشل الأفغاني بدعم تشكيل الحكومة الشورية و فشل الثورة العرابية رغم النهج الثوري الذي اتخذته , فما كان من الأفغاني في منفاه إلا أن يسعى لدمج الصحافة بعمله السياسي كنوع من أنواع نشر الوعي الثوري و الإصلاحي بين الجماهير , فكانت فكرة العروة الوثقى , و قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن العروة الوثقى هي مجرد صحيفة سياسية , لكن في الحقيقة هي فكرة سياسية نابعة من العمل الصحفي , فكانت منبراً سياسياَ و ذلك عند تحولها إلى جمعية دينية إصلاحية , تستهدف تجديد الإسلام و صلاح حال المسلمين و أيضا هذا التنظيم هو امتداد للحزب الوطني الحر , إلا أنه تنظيم سري أخذ على عاتقه نهضة الدول الإسلامية من ضعفها , و تحريرها للقيام بشؤونها , و العمل مع الحركات و الجماعات التي تناظل من أجل تحرير الإنسان و العمل على تحرير البلاد من الاستعمار و طرده .
كان زعيم هذا التنظيم هو ذاته مؤسسه جمال الدين الأفغاني و كان الشيخ محمد عبده نائباً للرئيس فيه , و كان يكتب في صفحة العمل السياسي و لم يكن متحمساً جداَ لهذه الكتابات لأنه لا يتبنى الخطاب الثوري في تفكيره بل تفكيره منغمس بالإصلاح و التغيير .
كان أعضاء هذا التنظيم السري من النخب التي تعتبر عناصر مفيدة و داعمة للعمل التنظيمي و السياسي , و شخصيات مؤثرة مجتمعياً و شخصيات عتبارية , و كان هؤلاء الدعامة الحقيقية للعمل السياسي السري لتنظيم العروة الوثقى .
و في تفاصيله نجد أن هذا التنظيم هو من أوائل التنظيمات السرية في تلك المرحلة و عندما نقول تنظيم فهذا يعني فعلاً للجودة التنظيمية و التراتبية الهيكلية .
يقوم هذا التنظيم على خلايا و وحدات سرية منفصلة عن بعضها بالكوادر متصلة بالقيادات ضمن إطار الأسماء الحركية .
و هناك عدة نقاط زادت هذا التنظيم قوةو هي :
المرونة و الانتشار على أوسع الطبقات و على كافة الأصعدة .
الخبرة في تجنيد الأعضاء الجدد , و ذلك من خلال معرفة هؤلاء الأعضاء الجدد قبل التواصل معهم و معرفة ميولهم السياسية أولا و آلية جذبهم في النقطة الثانية .
الواجبات الأساسية لعناصر التنظيم و تنفيذها بشكل منظم لا يثير الريبة و الشك و الحذر و الحيطة في العمل .
التواصل مع الجماهير بشكل مباشر و حذر , و نقل إليهم كافة المتغيرات السياسية و الفكرية بحسب الإدراك المعرفي .
الإدارة المالية المبنية على الدقة في الحسابات و التمويل الموزع على عدة أصعدة بين المطبوعات و التكاليف الضرورية و دعم الثوار و مساعدة المحتاجين .
فاستطاع هذا التنظيم أن يشكل وعي جماهيري طبقي لا جدال فيه .
كانت من أكثر الأفكار غرابة و استهجان لدى الشيخ محمد عبده في ميدان الإصلاح و التغيير هي تأييده للاستبداد أو بشكل آخر للمستبد .
فهو كان يرى أن سلطة الفرد الصالح فكرة إيجابية لكي ينهض بالأمة . لكن كتب رأياً و أرسله للجامعة العثمانية بعنوان ” إنما ينهض بالشرق مستبد عادل ” , و هنا يوضح رأيه في هذا الصدد حتى لا يحتسب عليه كشكل من أشكال التخلف و الرجعية فيقول واصفاً الحاكم الذي يريده لإصلاح الشرق و النهضة به :
” مستبد يكره المتناكرين على التعارف , و يلجئ الأهل على التراحم , و يقهر الجيران على التناصف , يحمل الناس على رأيه في منافعة بالرهبة , إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة , عادل لا يخطو خطوة إلا و نظراته إلى شعبه الذي يحكمه , فإن عرض حظاً لنفسه فليقع دائما تحت النظرة الثانية فهو لهم أكثر ما هو لنفسه ” .
فهو يرى أن بواسطة هذا المستبد يمكن أن يحقق ما لم تحققه الثورة و عليه يجب الاستعانة و الأخذ بيده إلى ما فيه منفعة البلاد .
و لإنصاف الرجل الذي تم اتهامه بأنه قد تعاون مع الإنكليز أو قد يكون غير معارض لوجودهم و ذلك لتحقيق هدفه الإصلاحي في نشر المعارف و التعليم و بناء الكوادر و تجهيزها للنهضة الكبرى بالبلاد العربية و الإسلامية قاطبة , فهو يؤمن بالتعليم كوسيلة أساسية في نهضة الشعوب و تقدمها , لكن ما خفي عنه أنه كان ملاحظ الخطوات من قبل الإنكليز و كانوا دائما يسبقونه بخطوات احترازية حتى وصل إلى مرحلته النهائية التي تم فيها إبعاده عن التعليم و إشغاله بمنصب المفتي العام في البلاد , و ظلت أفكاره و آراءه حبيسة الجرائد و الكتب لا يراها و ينهل منها إلا من أراد ذلك , و قد غاب عنه أنه من الواجب دمج الحماس الثوري و الدوافع الوطنية الثابتة في مجال الإصلاح و التغيير فلولا الحماس الثوري الذي رافقه الوعي المجتمعي و دعمهما موقف النخب الوطني و رغبتهم في تحرير البلاد لما انطلقت الثورة العرابية التي رفعت من عزائم الجماهير و دفعتهم للعمل السياسي و الفكري معاً.
الرابط لمادة قراءات في فكر المودودي وهي الجزء الأول من السلسلة
قراءات حول المودودي منظر السلفية الجهادية