الثلاثاء , أبريل 29 2025
الرئيسية / دراسات / مراسم العزاء في التراث العربي

مراسم العزاء في التراث العربي

مراسم العزاء في التراث العربي

بين الثابت والمتغير

دراسة بحثية

خليل الأسود 

مقدمة في تاريخ طقوس العزاء عند العرب

ترتبط حياة الناس منذ الخلق الأول إلى يومنا الحاضر ارتباطاً ديناميكياً في كلمتي الولادة والوفاة ، ثم أن هذه الحياة في جميع العصور والمجتمعات التي مرت بها جرت على أن لكل من هاتين الكلمتين طقوسها وعاداتها المتغيرة بين مجتمع وآخر ، و زمن وآخر في نفس المجتمع أحياناً . فلا طقوس الولادة هي ذاتها عند جميع الشعوب ، ولا هي عينها عند شعب ما في جميع المراحل الزمنية التي مر بها هذا الشعب أو ذاك ، والكلام بمثله يقاس عليه ، ولذا فإن الحديث عن طقوس الوفاة ينطبق عليه ما ينطبق على طقوس الولادة أيضاً .

وبما أن هذا هو الحال فقد اخترت لهذا المقال البحثي عنوانه الذي يشي بنوع من اتساع رقعة الزمن والجغرافيا ، ذلك أنني أحاول من خلاله أن ألقي بعض الضوء على تفاصيل طقوس ومراسم العزاء ومدى تغيرها بين مجتمع وآخر أحياناً ، وفترة زمنية وأخرى أحياناً أخرى حتى عند ذات المجتمع .

وقد مرت طقوس العزاء بمراحل كثيرة ومتغيرات أكثر ، بدءاً من أول العصور التي سأتناولها في هذا المقال وهو عصر ما قبل الإسلام إلى أن جاء العهد الأول من عصر صدر الإسلام وما أضافه في هذا المجال ، وكيف ساهم بتغير الموروث العزائي ، ثم كيف ساهمت بعض الظروف المحيطة المتغيرة في تغيير مراسم العزاء عند المجتمعات اللاحقة .

مراسم العزاء في عصر ما قبل الإسلام :

سأقسم مراسم العزاء ما قبل الإسلام إلى قسمين ، أولهما مراسم ما قبل الدفن ، وثانيهما مراسم ما بعد الدفن ، وسأجري بعض المقارنات في هذا المجال بعصور أخرى مرت على العرب والمسلمين فيما بعد .

أولاً : مراسم ما قبل الدفن :

1- النعي : يكاد يجتمع معظم الباحثين العرب والمستشرقين على عادات بعينها كانت ثابتة في مراسم العزاء في عصر ما قبل الإسلام ، ومنها أنهم كانوا يفعلون بعضها قبل الدفن كمراسم رسمية يستوي في بعضها الفقير والغني والشريف والوضيع ، ومنها النعي ، والنعي هو أن يبلغ ذوو المتوفى أهل الحي أو القبيلة أو حتى القبائل المجاورة بوفاة فلان ، وكان ذلك بأن يطوف طائف من القبيلة على الناس ليخبر بوفاة هذا الشخص بأن يقول عبارات معينة كأن يقول :” هلكت العرب بوفاة فلان” .

وأما المتغير فهو أن عادة النعي وإن كانت ثابتة في المراد منها ، إلا أنها متغيرة في الطريقة والأسلوب ، فقد تطورت عبر مراحل الزمن ، وترافق تطورها مع تطور وسائل الإعلام فأصبح الناعي مذيعاً في قناة أو زاوية في صحيفة أو ورقة تلصق على جدران الحي .

2- تغسيل الميت وتطييبه : وهي من العادات التي خضعت لقانون الثابت والمتغير الديناميكي الخاضع بدوره لتغير الثقافة الدينية في المقام الأول ، فقد جرت عادة العرب في الجاهلية أن يتم تغسيل الميت ، ثم أن بعض العرب كانوا يغسلون الميت ببعض النباتات المنظفة والمطيبة كالأشنان و الخطمي ، ويقال بأن قريشاً أول من غسل الميت بالسدر كما فعلوا في عبد المطلب بن هاشم عند وفاته . وأما المتغير فهي أن تغسيل الميت كان في عصر الجاهلية تغسيلاً للتكريم لا يحمل أي معنى ديني بين طياته ، ولكنه وإن استمر في عصر الإسلام إلا أنه أصبح يحمل المعنى الديني ، في التزام تغسيل الميت كأمر شرعي ، وقد استمرت إلى يومنا الحالي بعض الناس تطيب جثة الميت بدهن العود والعنبر ، وهي من المتغيرات التي طرأت بتغير الزمان بدل أن كانوا يغسلونه ويطيبونه بالأشنان والخطمي .

3- وكذلك الأمر ينسحب كلياً في عادة التكفين ، فالميت كان يكفن في عصر ما قبل الإسلام بداعي التكريم إلا أنه تغير مع الزمن وبعد مجيء الإسلام فأصبح واجباً شرعياً .

4- التشييع : وكان العرب يشيعون الميت على آلة تسمى النعش ، وهي عبارة عن أعواد من الخشب ، يصفونها ويضعون عليها الميت ثم يربطون الجثة إلى النعش ، ويسيرون بها إلى مكان الدفن ، وهي من الثوابت التي كان العرب يقومون بها قبل الإسلام ، ثم خضعت هذه المسألة كغيرها لبعض التغيرات حتى أنها استمرت حتى عهد قريب جداً ، ففي ثمانينات القرن المنصرم كان لا يزال بعض سكان القرى وحتى المدن في بعض البلدان العربية يسيرون بالنعش ذاته وبالآلة عينها والطريقة نفسها إلى القبر ليدفنوا ميتهم ، ولكن ما تغير فيها هي بعض العادات الدينية المرافقة لها . حتى أن بعض سكان القرى كانوا يتناوبون على حمل النعش إلى حين الوصول إلى القبر . وقد يميز بين نعش المرأة والرجل بأن يوضع ما يسمى الحرج وهو مشبك يوضع فوق جثة المرأة لكي لا يظهر من تفاصيل جسمها شيء لمن يحملون النعش .

5- والغريب في الأمر في أن تقارب الطقوس العربية في الجنازة قد وصل إلى أن العرب عرفوا الصلاة على الميت قبل الإسلام ، ولكنها صلاة من نوع مختلف ، وقد كانوا يؤدونها كنوع من تعداد مناقب الميت ، وهي أن يقف أحد المقربين من الميت او من أهله ، ويعدد مناقبه ويدعو له في نهاية الحديث بالرحمة . وهذا مما لاشك فيه أنه من الثوابت في الشكل والمتغيرات في المضمون أيضاً ، فقد استمر في الإسلام ولكن بصورة صلاة كاملة تامة الأركان .

6- والثابت الأخير هنا هو الدفن ، وهو يخضع لما خضعت له جملة الثوابت السابقة ، في أنه تغير وتطور عبر محطات الزمن ، وخصوصاً بعد الإسلام الذي حدد مواصفات معينة لحفرة الميت التي تسمى القبر . وحدد لها آداباً معينة ترافق عملية الدفن وتشرف على تنفيذها بحذر كبير .

ثانياً : مراسم العزاء بعد الدفن :

وأما المتغيرات الأكبر فهي في المرحلة الثانية من مراسم العزاء وهي المرحلة التي تلي عملية دفن الميت .

وقد مرت هذه المرحلة بمتغيرات كثيرة منذ العصر الجاهلي إلى اليوم ، حتى أنها اختلفت اختلافات كبيرة وكثيرة بين قوم وقوم ، وبين زمن وآخر عند نفس القوم أيضاً .

وسأورد هنا بعض المتغيرات الكبرى التي طرأت على هذه المراسم ، وسأتطرق إلى القليل من المقارنات التاريخية في هذا المجال ، ومنها :

1- عقر الذبائح على قبور الموتى : وهي عادة جاهلية بحتة وصلت إلينا في أخبار الجاهلية الأولى ، حيث كان العرب في الجاهلية يذبحون الذبائح وغالباً ما تكون هذه الذبائح ناقة أو فرساً على قبر الميت ، من باب الإكرام للميت واعتداد القبيلة به ، وقد ورد في شعر الجاهلية الكثير من الأسماء التي ذبحت على قبورهم الذبائح ومنها ما قام به المنذر بن ماء السماء حين عقر الذبائح على قبري عمرو بن مسعود وخالد بن نضلة الأسديين . ( )

2- اتخاذ البلية ، والبلية هي أنهم كانوا إذا مات الميت جاؤوا إلى دابته التي كان يركبها ، ويجعلونها فوق قبره ثم يعكسون رأسها إلى يدها ، ويربطونها بالحبال ويتركونها بلا مأكل ولا مشرب حتى تموت .

ويفسر البعض مراد العرب من هذه ” البلية ” أن العرب كانوا يعتقدون بالبعث ويوم القيامة حتى في الجاهلية ، وهم يقدمون هذه البلية للمتوفى لكي تموت فوق قبره فإذا ما جاء يوم القيامة وجدها فوق قبره فيذهب إلى الحساب راكباً ، ومن كان لا يملك دابة في حياته ، لا تكون له بلية فوق قبره ، ولذا فسيذهب للحساب ماشياً على قدميه .

ومن عجيب ما رأيت في هذه العادة بين الثابت والمتحول بين زمن وآخر ، وقوم وقوم ، هي أنني سمعت من صديق لي يدرس في قرغيزستان أن بعض القرغيز إلى اليوم يضعون فوق قبر الميت إبريقاً وكأساً للشاي ، ويكون ذلك في اليوم الأول ، ثم ينصرفون عنه ، وهم يعتقدون بهذا الفعل أن الميت حي في قبره ولذا فهم يضعون له كأس شاي من باب تكريمه بالمشروب الذي يحب .

والأغرب من هذا و ذاك ما رواه لي أحد أقربائي المعمرين ، وهو أن العرب حتى زمن قريب جداً ( أواخر ثمانينات القرن المنصرم ) كانوا يتخذون آلة ويسمونها ” المصيبة ” وهي أن يأتوا بأعواد من الخشب ويلبسونها ثياب الميت ، ثم تتخلق حولها النساء ليقمن بما يسمى ” المعادة ” .

وقبل أن أذهب إلى شرح المعادة هذه ، لن أفوت فرصة المقارنة بين هذه العادات الثلاث ، فالعادة الأولى ” البلية ” كان العرب يمارسونها قبل الإسلام والثانية يمارسها القرغيز المسلمون حتى وقت قريب جداً وسأضع صورتها هنا في الأسفل ، وأما الثالثة فهي من نصيب أهل القرى والأرياف في معظم البلدان العربية ومنها سوريا والعراق ، والغريب فيها أنها تدور في فضاء واحد ، وهو الطقس الذي يتلو الدفن ، والأغرب هو تطابق الاسمين ( البلية – المصيبة ) في الطقسين الجاهلي والإسلامي المتأخر جداً .

وأما المعادة فهي أن يستأجر أهل المتوفى امرأة تدعى ” العدّادة ” ويأتي اسمها من أنها تعدّ مناقب المتوفى في أبيات شعرية عامية ، وتتحلق النساء حولها فيرددن معها ما تقول ويتفاعلن معها تفاعلاً يختلف نسبياً بين امرأة وأخرى ، فقد يصل ببعضهن الأمر أن يقمن بقص شعورهن ، وإن تمنعت إحداهن وخصوصاً إن كانت من أقارب الميت ، تبدأ النساء الأخريات بتحريضها مقارنات لها ما فعلت فلانة وهي أبعد عن المتوفى فتبدأ بقص شعرها إن لم يكن حزناً فهو لكف ألسنة النساء الأخريات عنها .

ومن أجواء هذا الطقس الغريب أيضاً أن بعض النساء يذهبن إلى ما يسمى ” شحّار ” القدر الذي تطبخ فيه ولائم العزاء ، فتشحّر وجهها بالأسود من هذا القدر ، كنوع من الإسراف في التعبير عن الحزن .

وقد يكون هذا المقال باباً لبحث كبير في المقارنة بين عادات العرب في الجاهلية وعصر الإسلام ، وحياة البداوة والحياة المدنية ، فيكون بحثاً موسعاً أكثر وشاملاً لكل الزوايا التي يتسنى لنا مقارنتها في هذا الباب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

إعادة تدوير الشبيحة، هل هي تكتيك أم استراتيجيا؟

 إعادة تدوير الشبيحة، هل هي تكتيك أم استراتيجيا؟ أحمد السالم   وكأننا لا نملك ذاكرة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 + سبعة =