للكاتب إسلام أبو شكير
وأنا أتجاوز الحدود من جهة الأردن براً باتجاه دمشق كنت قلقاً بشأن الأيام التي سأقضيها.. كيف سأتعامل مع بلد بيني وبينه فجوة غياب عمرها عقود.. كيف سأميز بين الاتجاهات.. كيف سأصل الأماكن التي أريدها..؟!
كنت قادماً من بلد يتغير كل سنة، وأحياناً كل شهر.. وهذا ما ضاعف من قلقي وخوفي..
دخلنا دمشق، فسألت السائق عن اسم المنطقة، فقال:
– نهر عيشة
في هذه اللحظة تفتحت ذاكرتي تماماً. خرجتْ من قمقمها الضيق المغلق، وتكلمت.. عرفت ان ساحة الأشمر أصبحت خلفنا، وأننا سنصل إلى المتحلق الجنوبي قريباً..
لم أعد بحاجة إلى السؤال، فالأماكن كلها كما هي، حتى إنني اجتهدت فلمت السائق لأنه دخل بي من شارع خالد بن الوليد المزدحم، ولم يأخذ طريق البرامكة..
خلال أقل من نصف ساعة من تجوالي في شوارع دمشق عرفت أنها هي هي، لم تتغير، بشوارعها، وأبنيتها، وأسماء محلاتها، وكل تفاصيلها.. التغيير الوحيد الذي لفت انتباهي بناء فندق سميراميس الذي تخلى عن واجهته الخضراء البشعة، لصالح واجهة حجرية منسجمة مع المحيط.. كذلك إزالة جسر المشاة في المنطقة.. هنالك أيضاً هيكل غامض في منطقة المعرض القديم لم أرتح له..
خلال الأيام التالية تجولت في كثير من مناطق دمشق، ولم اواجه أي مشكلة في الاستدلال على طريقي. كنت ذلك الشاب العشريني نفسه، وهو يتسكع في مكان يعرفه حجراً حجراً، وزاوية زاوية..
ثم وصلت إلى المخيم، وهو المكان الوحيد الذي اضطررت إلى التمهل أثناء المشي فيه لتحديد مكاني بالضبط، وذلك بسبب الدمار الهائل الذي محا معظم معالمه.. كنت أعتمد على خارطة ذهنية مجردة، إلى أن وصلت البيت الذي سكنته ثلاث سنوات، ورأيت غرفتي فيه مكشوفة تماماً بعد أن سقطت جدرانها.. وللحظة خيل إلي أنني أراني داخلها، مستنداً إلى الشباك..
الوجوه في شوارع دمشق ليست هي ذاتها الوجوه القديمة، لكنها تشبهها كثيراً.. الابتسامات، والعيون، والملامح.. وكذلك الملابس، ولغة الجسد.. كما لو أنني غادرت دمشق يوماً واحداً فقط..
أسعدني هذا الأمر طبعاً.. لكنني انتبهت إلى مظاهر الشيخوخة التي أرهقت المدينة.. بدا لي أنها تكابر كثيراً، وهي تداري ضعفها وحزنها..
مدينة متعبة، تعيش حياتها يوماً بيوم، بدون أحلام ولا تطلعات. المستقبل بالنسبة لها بعد مفقود في معادلة الزمن. تعيش حاضرها المستجلب من الماضي، دون اي اكتراث او إحساس بالمستقبل..
الحرب في دمشق ما زالت مستمرة.. حرب ضد الفقر، واليأس، والطبيعة، والجوع، والبطالة..
هنالك حالة لا مبالاة مخيفة تجاه الفوضى، والتلوث، والضجيج.. والسبب بكل تأكيد سلم الأولويات المختل..
ومع ذلك، فالأيام الأخيرة كما يظهر غيرت الكثير.. هناك من يتحدث عن فرص العمل التي ستنفتح، وعن المدن الجديدة التي ستنتشل دمشق من مأزق ازدحامها، وعن الكفاية، وعن الكرامة، وعن الأناقة، وعن الحريات، وعن السمعة.. يتحدثون عنها بصفتها احتمالات ممكنة قد يعيشونها هم أو يعيشها أبناؤهم، لا بصفتها أساطير يعيشها العالم من حولهم، وتصلهم أخبارها من بعيد..
أحلام يحملها البشر، ويطوفون بها في حركتهم اليومية كنوع من الوقود الذي يمدهم بالطاقة..
يحمّل ذلك النظام الجديد أمانة لا خيار أمامه سوى أن يتصدى لها، ويفي بها، وإلا كان أسوأ مما سبقه..
خذلان الناس في أحلامهم سيكون أقسى جريمة يمكن أن يرتكبها النظام الجديد بحقهم.. ولا أظن أن أحداً يمكن أن يسامحه عليها..
عن الشرق وحكاياه المؤلمة سأتحدث فيما بعد..