أبو نواس الذي لم يقبل بتوبته أحد ، عن شارعه أيضاً :
سمير السعيدي
شارع أبي نواس ، سيّد شوارع بغداد الوحيد . شارع الثقافة والفن والسهر ، الذي وُلد في العام 1934 ليبدأ من حيث انتهى شارع الرشيد ، ويصبح امتداداً واحداً له على طول نهر دجلة شرق بغداد ، في عاصمةٍ كانت تعنى كثيراً بالتسميات الاعتبارية لمعالمها وشوارعها ، كشارع الثورة وشارع النضال وشارع الجمهورية وشارع الكفاح وشارع فلسطين وغيرها ، وقد كان ليل بغداد حين يهطل في ذلك الشارع يمكنك أن تتحسسّه وتتذوقه وتكاد أن تتلمّسه وتتحدّث معه ، وكانت كل أماكن السهر فيه تتوزع بين أحاديث الوجد والثقافة والفن والسياسة والغناء ، وكانت كل جلسة أو ركن فيها تدور أحاديث فيها من الغنى والثراء مايفوق كل الندوات والمؤتمرات والأمسيات التي حصلت منذ عام 2003 حتى اللحظة .
إن ّ هذا الشارع هو استثناء اقترن اسمه بالحسن بن هانئ الذي عرف باسم “أبي نواس″ ، نديم وصديق الخليفة هارون الرشيد ، والشاعر العباسي الذي عاصر ثلاثة خلفاء ، الرشيد والأمين والمأمون .
هو شاعر السهر في عصرٍ مترف ، تماهت فيه قصائده مع الليل والحسان فقط ، بصياغات جمالية مبتكرة ، ألغت كل ما قيل من قبلها شعراً في هذا الصدد ، وقد قلّدها الكثيرون من بعده ، فلا وقوف على الأطلال في منجز أبي نواس الشعري ، لا بطولات ولا خطابات ولا تقليد لأحد ممن سبقوه ، حتى أصبحت كلماته أمثالاً بين الناس ما يزالون يتداولونها حتى هذا اليوم .
فلا ضرورة لذكر بقية الكلام حين يقول أحدهم “دع عنك لومي”. سيعرف الجميع على الفور أن المثل مأخوذ من قول أبي نواس :
“دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ
وداوني بالتي كانت هي الداءُ”.
موقع الشارع على نهر دجلة ميزة نادرة أخرى لأبي نواس ، والطقس الذي يغفو فيه وسط غابة من الأشجار الشاهقة المتنوعة الممتدة حتى أطراف الجهة المقابلة، يمنحه لهفة تقاطر العشاق والشعراء والفنانين والعوائل والزوّار منذ قبيل المغرب إليه ، رغم أنّه لا يستقبل روّاده إلا ليلاً ، وينادمهم حتى مطلع الفجر ، فقد ارتبط اسمه بالليل منذ العصر العباسي .
الماشي في شارع أبي نواس يمكنه أن يسمع صوت شهرزاد وهي تبتدئ حكايتها بـ”بلغني أيها الملك السعيد..”، وتنهيها بـ”وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح”.
تخبر شهرزاد اليوم شهريارها عن حكايا أخرى، عن المليشيات ومكاتبهم ومواخيرهم التي شوهت الشارع بعد العام 2003.
كان الليل مزدهراً في حدائق وكازينوهات ومقاهٍ ومحال لا تحصى لشيّ السمك النهري بالطريقة العراقية الشهيرة بالمسگوف ، ويكاد لا يعرف وقتها أيّ شارع أو مكان في بغداد وباقي المحافظات سوى شارع أبي نواس وسمكه المسگوف على نار الفحم الخشبي الخاص، فتمتزج رائحة ماء دجلة برائحة الورود والأشجار برائحة الشواء .
تضيف أضواء أبي نواس ألقاً خالداً لهذا المزيج ، فيصعب تكرار ليل ٍ كهذا في مكان آخر على وجه البسيطة.
على الجانب الأيسر المحاذي لشارع السعدون تنتشر الحانات والفنادق والمطاعم، وتتوزع صالات عروض الفنون التشكيلية، وكذلك بعض مباني الدوائر الرسمية، وتتنافس دول العالم قاطبة للفوز بمبنى لها في هذا المكان على اختلاف العهود، لما يمتلكه الشارع من إطلالات ساحرة وجمال فريد، ومكانة حضارية وإبداعية، ففيه مبنى الأمم المتحدة والمركز الثقافي الفرنسي والمركز الثقافي الروسي ووكالة الأنباء العراقية ونادي الإعلام، ومبان ٍ بغدادية تراثية ذات طراز إنكليزي وعثماني وآخر عربي مسيحي وإسلامي.
ورغم نهوض أماكن سياحية أخرى في بغداد، كما في الأعظمية ومنطقة المسبح والفحّامة، لكنها لم تستطع أن تسرق نجوميّة شارع أبي نواس وخصوصيته وتفرّده .
منذ وفاة الحسن بن هانئ ، وإلى يومنا هذا ، مازالت كتب النوادر والطرائف والحكايا والقصص تروى عنه ، وتورد الكثير من الأشعار والغرائب ، رغم أن غالبية ذلك منحول وغير موثّق وغير معتمد ، لا بل إن الكثير منهم لم يتقبّل حتى توبة أبي نواس ، واعتبرها غير حقيقية حتى يومنا هذا .
أحداث وحكايا ومثالب كثيرة رويت عن الشاعر الذي عاصر ثلاثة خلفاء ( الرشيد والأمين والمأمون ) ، لكنها لم تستطع أن تسرق نجومية وشاعرية أبي نواس .
كأنهم قد تقبّلوا فقط عوالم الخمرة واللهو وقصائد المجون عنه ، ويرومون إعادته إليها قسراً ، كي يظلوا متغنّين بتلك الخصوصية الخمرية الفكاهية عنه وحسب ، بينما هو الشاعر الذي يقول في زهده كمرحلة حاول الكثير شطبها من سيرته :
تأمّل في نبات الأرض وانظر
إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لجين ٍ شاخصاتٍ
بأحداق هي الذهب السبيكُ
على كثب الزبردج ساهرات ٍ
بأن الله ليس له شريكُ
في قصيدة ٍ أخرى قال أبو نواس :
إلهي لا تعذبّني فإنّي
مقرّ بالذي قد كان منّي
يظن الناس بي خيرا وإنّي
لشرّ الناس إن لم تعف عنّي
وورد أنّه كان يسير حاملا المصحف في شوارع بغداد ، معلناً زهده وتوبته ويقول القصائد الكثيرة المدلة على ذلك ، التي سمّاها النقّاد بـ”الزهديات” كمرحلة فعلية في مسيرة أبي نواس ، لكن الرافضين لذلك من متذوقي الأدب ومن بعض المتعصبين لمرحلته السابقة ، كانوا يرسلون خلفه بعض الصبية ليرددوا أشعاره في اللهو والمجون وهو يسير في طريقه .
مع هذا فقد أثبتت ابتهالاته الشعرية وزهدياته عكس ذلك ، وكان لطوافه حول بيت الله دليل آخر :
إلهي ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبّيك قد لبيت لك
لبّيك إن الحمد لك
ما خاب عبد سألك
لولاك يا ربّ هلك
لكن المتابع والمتأمّل لزهديات أبي نواس في تراثه الشعري ، وقبلها الإباحية والتهتك في خمرياته ، يجد نفحات إيمانية شعريّة فذّة ، لشاعر فريد ترك إرثاً لا يجف ولا يموت ، بلون شعري قلّ وجوده في ثقافتنا العربية ، وأمثولة إنسانية نادرة ، في مسيرته الطويلة ، إن كان في مرحلة اللهو وشعر الخمرة أو في مرحلة الزهد والتوبة .
وورد أنّه في الليلة التي توفي فيها أبو نواس ، وجدوا الأبيات الشعرية التالية في فراشه ، وهي المدوّنة أيضا على رخام القاعدة أسفل تمثاله في شارعه، شارع أبي نواس :
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرةً
فلقد علمت بأنّ عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ
فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً
فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحمُ
مالي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميلُ عفوكَ ، ثم ّ أنّي مسلمُ