الأربعاء , ديسمبر 25 2024
الرئيسية / كلام سوريين / حفلة التيس الأخيرة

حفلة التيس الأخيرة

حفلة التيس الأخيرة

قصة ل عقيل حسين 

أنا يا سادة تيس في السابعة من عمري، أعيش منذ أن ولدت في حظيرة صغيرة يملكها شعبان السلخ، وهو رجل على أبواب الأربعين، أي أنه يعرف جيداً أصلي وفصلي ومن أنا وما هو دوري في الحياة وماذا أجيد وماذا احب وماذا أكره، لأنه رباني وربى أبي وجدي من قبل في حظيرته التي تضم بجانبي ست ماعز الآن، بالإضافة إلى تسع سخلات وجدي واحد، مع مجموعة أخرى من حيوانات المزرعة التي يملكها أي ريفي تقريباً.
باختصار نحن متعودين على شعبان السلخ وهو متعود علينا، والأهم أن الرجل يفهم علي وأفهم عليه، والحق أنه لطيف طيب لم نر منه في كل حياتنا إلا الخير، وفوق هذا كله فهو ينزل الآخرين منازلهم، لذلك فقد كان على مدار السنين الماضيات من عمري يحترمني ويقدرني باعتباري فحل القطيع وسيده، ولي بسبب ذلك عنده حظوة ومكانة.
وأنا من جانبي، أيها السادة، كنت محترماً أيضاً طيلة الوقت، معه ومع الجميع. حافظت على كرامتي ورزانتي، وتصرفت دائماً كما يليق بتيس معتبر، فلا مزاح يقلل الهيبة، ولا تجبر يذهب المحبة من قلوب الماعز وصغارها، ولا تعد على بقية الحيوانات في الحظيرة، ولا تسامح أيضاً مع أي اعتداء من الآخرين علينا..وعلى ذلك اتسمت علاقتي مع الجميع بالاحترام المتبادل.
والحق أن هذا كله اكسبني صداقات طيبة مع المحترمين، سواء في مزرعتنا أو مزارع الجيران، لكن كل ما سبق شيء وصداقتي مع شعبان السلخ، صاحب مزرعتنا، شيء آخر..
كيف أشرح لكم ؟
في الواقع يمكنكم اعتباره رب عمل طيب لا يقسو على عماله أو يجور عليهم. ليس طماعاً فيستنزفهم، ولا بخيلاً فيتقتر عليهم بطعام أو بأجر، وإذا ما أضفنا إلى ذلك حسن معشره ودماثة خلقه، فنكون أمام مالك مزرعة مثالي، سيتمنى كل حيوان داجن على وجه البسيطة أن يعيش معه.
إذاً ما هي المشكلة وأين القصة والقضية ؟
القصة الاشكالية بدأت أيها السادة المحترمون منذ بضعة أسابيع، عندما اقتنى صاحبنا موبايل حديث.
في البداية لم يعن لنا هذا الأمر شيئاً، فلطالما امتلك الرجل موبايلاً يحمله أينما حل أو ارتحل، ولطالما سارت الأمور دون مشاكل، حتى أننا لم نشعر بأي إضافة أو ما يثير الانتباه طيلة السنوات الماضية.
يرن الهاتف فلا ننتبه لرنينه..يتركنا نرعى لوقت طويل وهو يتكلم مع الناس من خلاله فلا نهتم..يسرع أحياناً فيغادر بناء على مكالمة تأتيه فلا ننزعج..يتوتر في بعض الأوقات إذا أصاب موبايله عطل أو ضعفت التغطية فلا نقلق..يعني كل شيء كان عادياً وطبيعياً، إلى أن ظهر في حياتنا هذا الموبايل الحديث الملعون.
أول تغيير طرأ عندما بدأ شعبان يقضي وقتاً أطول مع جهازه الجديد، وبينما كان سابقاً يخصصه للحديث والمكالمات، بما فيها المكالمات الطويلة أحياناً، فإن هذا الهاتف بدأ يسيطر عليه بشكل غريب حتى لا يكاد يضع من يده أو يرفع رأسه عنه، لكن أكثر ما كان يدهشنا أنه أحياناً، وهو يستعرض بأصابعه شاشة الموبايل، يضحك حتى ينقلب على ظهره لفرط الضحك، وأحياناً تهيمن عليه لحظات من الأسى والحزن فتدمع عيناه أو يبكي بكاء حقيقياً !
والواقع أنني شعرت بالقلق على شعبان، ليس لأنه بدأ يهملنا منذ أن وقع هذا الشيطان في يده، بل لأن بيني وبين الرجل عشرة وخبز وملح أباً عن جد، لذلك ومن باب الحرص والواجب قررت فعل شيء.
لكن ماذا أفعل ؟ فأنا بالنهاية تيس، ولا أستيطع التكلم معه، ولن يفهم ما سأقوله رغم التفاهم المعتاد فيما بيننا.
ولا أخفيكم أنني فكرت باستشارة حمار جيراننا بالأمر، لكنني خجلت، فماذا سأقول له ؟ هل أخبره أن صاحبنا جن وفقد عقله مثلاً ؟ أقسم أن ضميري لم يسمح لي بذلك، وقد استحييت أن يصبح شعبان السلخ، صاحب الفضل علينا، محل سخرية أو غمز ولمز.. لم يهن علي لا والله، ولذلك فقد قررت أن أتصرف بنفسي.
في ذلك اليوم كان شعبان جالساً على أكياس التبن في زاوية الحظيرة ولم نخرج للرعي بسبب المطر الشديد والبرد القارس، وكعادته يمسك هاتفه ويقلب به ويتقلب بين ضحك وبكاء وهو يدخن سيجارته ويشرب الشاي.
تقدمت نحوه ببطأ وكلي حرص ألا ينتبه إلي فأثير حفيظته، وتسللت لأكون في الجهة المقابلة لشاشة الموبايل حتى أرى ما يشاهده صاحبنا واقف على حقيقة الأمر، وعندما لم استطع رؤية الشاشة بوضوح اقتربت أكثر وأنا بغاية التوجس والقلق أن ينتبه، لكن اللافت أنه لم يأخذ باله حتى وأنا أكاد أصعد فوق كتفيه، إلا أن المهم بالنسبة لي لحظتها أنني شاهدت كل شيء..
كل شيء أيها السادة، وليتني لم أشاهد ما شاهدت، وليتني لم اقترب أصلاً، وليتني لم أفكر حتى مجرد التفكير بهذا الأمر !
لماذا ؟!
لأن صاحبنا الذي فقد عقله انتبه إلي بالنهاية بعد أن فقدت تركيزي أنا الآخر ونسيت نفسي وانهمكت في متابعة ما يعرضه الجهاز الملعون من مقاطع فيديو، تصور الحيوانات الأليفة بحالات ومشاهد ومواقف عجيبة غريبة، بعضها مضحك بالفعل، وبعضها مثير للحزن والشفقة والله، ولذلك كان مع صاحبنا حق في ما كان يبديه من ردود فعل غريبة وقد فهمت حقيقة الأمر.
فمثلاً عرض الموبايل فيديو لكلب منزلي شاب وهو يلاعب طفل أصحابه كأنه صديقه، فيضحك الكلب والطفل من فرط المرح وتلمع عيونهما بالسعادة، فلا يجد من يشاهدهما إلا أن يضحك من القلب.
وبالمقابل شاهدت مقطعاً يصور لحظة لقاء فرس أصيلة بمالكها مجدداً بعد فراق بداعي العلاج، وقد كان، والحق يقال، مشهداً عاطفياً مؤثراً يبكي الحجر.
كما شاهدت قطة تعارك كلبين وتهزمهما، وغرير العسل يسحق رأس أفعى ضخمة بعد معركة دامية، وديكان يتصارعان في حلبة ومن حولهما عشرات المتفرجين الهائجين، وغيرها الكثير من المقاطع التي كانت على هذا النحو.
لكن فجأة انتبه إلي شعبان واكتشف أنني أقف بجانبه منغمساً بما يعرض، منسجماً مع المشاهد مشدوهاً بها، ولوهلة توقعت أنه سينهرني ويطلب مني الابتعاد، لكنني تفاجأت به يبتسم ويربت على رأسي ويطبطب علي بحنان ومحبة مبالغ بهما !
– ما رأيك أيها التيس..هل أعجبتك الفيديوهات ؟
هذا ما فهمته من الكلمات التي قالها شعبان في تلك اللحظة، ولم يكن الأمر بحاجة مني إلى ذكاء كي أفهم ما يقول وأنا الذي أفهم عليه بحكم العشرة.
خجلت من نفسي وشعرت أنني قللت أدب وانتهكت خصوصية الرجل، فطأطأت رأسي وأردت الابتعاد، لكن شعبان شدني ليمنعني من المغادرة:
-قف قف.. ابقى بجانبي أيها التيس..لا تخجل، فأنت حيوان ذكي جداً وأعتقد أنك تستحق أن تكون نجماً من نجوم التكتوك ووسائل التواصل الاجتماعي، فبماذا تفرق عنك تلك الكلاب والحمير والقطط والدجاجات التي تهيمن على الشاشات اليوم ؟..تعال، قف سألتقط لك صورة.
للأمانة فهمت شيئاً مما قاله ولم أفهم أشياء أخرى، لكن بالمجمل كان الموقف استثنائياً ولم أدر ما أفعل، فتسمرت مكاني كما طلب، لكن المفاجأة أنه وبعد أن التقط لي صورة، اقترب مني ولف رقبتي بذراعه وأخذ صورة مشتركة تجمعنا نحن الاثنين، ثم غادر لا يلوي على شيء.
أما أنا فقد بقيت ملخبطاً بعد ذلك الموقف لا أدري حقيقة مشاعري التي كانت مختلطة. فمن ناحية كنت نشواناً بالمعاملة الاستثنائية التي حصلت عليها، واللطف الزائد الذي عاملني به شعبان السلخ، مع الغبطة والفخر بالصور التي التقطها لي.
ومن ناحية أخرى، شعرت بالقلق مما قد يترتب على ذلك، لأنني لم أكن بحاجة لذكاء خارق كي أتوقع أن هذه الصور سوف تنشر على الانترنت ويشاهدها الناس كما شاهدت أنا مقاطع وصور الحيوانات الأخرى للتو.
لكن هل هذا جيد أم سيء ؟
تساءلت كثيراً إلا أنني لم أحصل على جواب يحسم الموقف بالنسبة لي، وفي النهاية تجاهلت الأمر ومضيت لصويحباتي وصغار الماعز أكمل يومي.
****
أطل صباح اليوم التالي بشمس مشرقة كسرت حدة برد كانون، وفي مثل هذه الحالات نعرف أننا سنتوجه للمراعي، لكن صاحبنا تأخر بالحضور ولم يفتح باب الحظيرة حتى وقت متأخر على غير العادة. بدا غير سعيد ومرهق، من الواضح أنه لم ينم بشكل جيد، وهو أمر نادراً ما يحصل.
فتح الباب فتقدمت القطيع لنخرج، لكنه استوقفني وسمح للآخرين بالمغادرة، وعندما بقينا أنا وهو فقط، أخرج هاتفه وبدأ يرطن بكلام فهمت منه أنه يريدني أن أفعل شيئاً ما وهو يصورني..شيء مثير يشبه ما تفعله الحيوانات التي شاهدتها معه بالأمس.
لكن أنا تيس..تيس أباً عن جد، تيس محترم يخضع له كل القطيع، وتوقره حيوانات المزرعة والقرية كلها، ولا يمكنني أن أتصرف بشكل صبياني أو أهبل.
تغافلت واصطنعت عدم الفهم واستدرت لألتحق بالرفاق، لكنه جذبني نحوه بقوة وعصبية، ثم بدأ يحدثني برفق وأسى حتى أنني لمحت لمعة الحزن في عينيه، فأشفقت عليه، وللأمانة فكرت بالأمر بيني وبين نفسي، وتوصلت إلى أنني استحق أن يتعرف الناس علي، فأنا أيضاً استحق الشهرة، ويمكنني تحقيق ذلك دون ابتذال.
طاوعته فأشرق وجهه وافتر عن ابتسامة عريضة، ثم بدأ يتقافز من حولي لا يدري ماذا يفعل، فقررت أن أساعده.
جذبته وانطلقت به إلى المرعى حيث انتشر قطيعي الصغير، الأمهات وأولادهن من الجدايا والسخلات، ثم نظرت نحوه كي أفهمه أن يبدأ التصوير، فاستوعب ما أريد وأخرج جهازه بلهفة وبدأ يسجل اللحظة، أو لنقل حفلتي الأولى على تكتوك، وباكورة خطى الشهرة والتألق.
طلبت من الماعز الصغار القدوم نحوي بصوت يفهموه علي، فهرعوا نحوي مسرعين، ثم اشرت إليهم بالجلوس، فجثوا على ركب قوائمهم الأربعة بين يدي.
نظرت لصاحبي فوجدته متهلل الأسارير منبسط، فانبسطت.
ثم ناديت على صويحباتي الماعز الأمهات فأسرعن باتجاهي، وأشرت إليهن أن يفعلن مثل أولادهن ففعلن، وهكذا أصبحت واقفاً وسط دائرة من الماعز الجلوس بخضوع وإحترام، في مشهد أفرح شعبان السلخ أيما فرح، وأشعرني بالزهو أنا أيضاً.
انصرف صاحبنا بعد أن أنجز مهمة التصوير، فطلبت من القطيع الانصراف وذهبت أتناول فطوري، وكنت بين الحين والآخر اختلس النظر إليه، شاعراً بالرضا للسعادة التي كانت بادية عليه، وقد لاحظت أن فرحته تزداد كل دقيقة أكثر، إلى أن هرول صوبي بعد نصف ساعة تقريباً، فاحتضنني وبدأ يقبلني بشكل هيستيري وهو يهذي بكلمات ويريني الفيديو الذي التقطه لنا، وقد لاحظت ظهور قلوب حب حمراء على الشاشة خلال العرض بكثافة ودون توقف، ففهمت أن هذا سبب سعادته الغامرة.
اعتقدت أنني قمت بواجبي نحو صاحبنا الكريم الطيب، لكن المصيبة أن القصة بدأت من هذه النقطة، وشعبان السلخ هذا بدا واضحاً أنه فقد عقله، وأجّر كل طوابقه لموبايله الجديد، الذي مذ رأيناه ما رأينا إلا الجنون والهبل.
فقد بات شعبان يقضي اليوم كله وهو يلاحقنا بجهازه، على صور وفيديوهات ومقاطع كان يتحدث خلالها للناس شارحاً ومعلقاً.
نجلس فيصورنا..نقف فيصورنا..نأكل يصورنا..نشرب يصورنا..ومرة أردت الاختلاء بإحدى صويحباتي فإذ به يركض نحونا ليصورنا !
هنا جن جنوني، فهجمت نحوه وأنا بقمة الغضب، ثم تلقيته بنطحة قوية طيرته ورفعته عن الأرض أمتاراً قبل أن تهوي به !
لوهلة أحسست بأنني ارتكبت غلطة كارثية لن أنجو منها..
خفت..ارتعدت..وخلال أجزاء من الثانية تخيلت ألف طريقة انتقام سيلجأ إليها صاحبنا..يذبحني مثلاً ويسلخ جلدي وهو يصورني ويبث مباشرة على مدار الكوكب حتى تتعظ تيوس العالم كلها..!
يقطع أعضاء وأنا حي أعوي مثل الكلاب..ينتف شعر لحيتي الكثيف شعرة شعرة بعد أن يربطني إلى جذع شجرة التوت..لكن أخطر ما تخيلته هو أن يقوم بإخصائي، وكما تعلمون أيها السادة، فإن هذا أسوأ ما يمكن أن يتعرض له التيس، فالتيوس إذا شاخت وباتت عاجزة عن التزاوج، تكتئب وتنطوي وتنعزل عن القطيع والعالم حتى تموت كمداً.
يا للهول !
لكن المفاجأة أن شعبان هذا استمر بالتصوير والتحدث رغم النطحة والسقوط المؤلم الذي تعرض له، بل وأكثر من ذلك بدأ يضحك ويقهقه وهو يكلم من يكلمهم من جهازه وكأن ما حصل أفرحه جداً !
يا إلهي ماذا يحدث ؟ كيف انقلبت الأمور على هذا النحو ؟ شعبان السلخ لن يذبحني ولن يسلخ جلدي ولن يخصيني..شعبان السلخ يتحامل على نفسه..يقف شعبان..يتقدم نحوي..يحتضنني ويقبلني وما زال يصور دون توقف..يا إلهي يا شعبان..ماذا يحصل..مالذي يجري ؟!!
جن شعبان نظامي يا سادة..جن أقسم بالله !
تصورا أنه بدل أن يعاقبني، صعد دراجته النارية على عجل، وتوجه نحو المدينة القريبة ليعود خلال ساعة من الزمن وهو يحمل قلادة كبيرة كلل بها عنقي قائلاً:
هذا وسام الشجاعة والنجومية أمنحه لك بعد ما درّته علي مقاطعك من أموال وحققته لي من شهرة..
وهذه نظارة فاخرة تستحقها لكي تحمي عيناك من الشمس والهواء..
وانظر أيضاً، لقد جلبت لك ملابس زاهية وملونة تليق بك يا تيسو..
تيسو !!!
أنا يصير اسمي تيسو !!!
لااااا هنا فاض الكيل !!
أنا التيس الفحل، سليل العراقة والرجولة والشمم، أنا الذي لم يجرأ أحد من قبل على مناداتي إلا باسم آبائي وأجدادي “التيس ابن التيس” أصبح دلوعاً ويصير اسمي تيسو ؟!
لا كنت ولا عشت، ومن اللحظة سأفارقك يا شعبان السلخ الذي جن، سأفارقك وأهيم على وجهي، فأن تأكلني ضواري البرية ووحوشها أكرم لي من هذا الجنون والسخف.

شاهد أيضاً

أين هي أمك؟

وينها أمك ؟ نص ل هناء درويش وينها أمك؟   السؤال الذي كان أول ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × 5 =