الأربعاء , ديسمبر 25 2024
الرئيسية / كلام سوريين / أستاذ عسكرية

أستاذ عسكرية

 

محمد الحمد

في المرحلة الإعدادية درست في ثانوية الخفسة، أنت لم تخطئ القراءة وأنا بدوري لم أخطئ الكتابة. هناك خلل واضح في نعت المدرسة بالثانوية، رغم احتوائها على صفوف إعدادية، حقيقةً الحياة كانت تسير هكذا..
كنت في الصف السابع، ومازال لباس الطلاب يومها اللباس العسكري بكل تفاصيله من الطاقية العسكرية مرورًا بالسترة والبنطال وانتهاءً بالبوط العسكري.
كانت لدينا مادة تربية عسكرية وكان لها أستاذ متخصص يزعل من كلمة أستاذ ويقول إنه مدرب، يتدخل في أتفه تفاصيل اللباس.
أين النطاق العسكري؟ ..
أين الكتافيات ؟.
أين الصدارة ؟..
السترة يجب أن تبقى تحت البنطال ..
النطاق العسكري يجب أن يكون ظاهرًا للعيان ..
منبطحًا … واقفًا ..
منبطحًا… واقفًا..
يعاقب الطلاب المخالفين أيضًا بقص الشعر عشوائيًّا بمقص كبير له قبضة برتقالية غالبًا، ويعاقب الطالبات المخالفات أيضًا بقص زاوية الحجاب، أضف إلى ذلك كانت لديه صلاحيات واسعة، فمن الممكن أن يناديك أثناء الدروس أو في الممر أو خلال الفرصة أو في الباحة أو أمام المدرسة أو في السوق أو حتى على مفرق منبج ، يناديك ويفتشك تفتيشًا كاملًا وشاملًا بحثًا عن علب دخان أو كاسيتات لكاظم الساهر أو خضر الناصر لا فرق .
كرهنا الاجتماعات الصباحية إضافة لدرسي التربية العسكرية في الأسبوع، الاجتماعات الصباحية وتحية العلم هي بيئة ملائمة لتكاثر مدربي العسكرية وانشطارهم انشطارًا ثلاثي النوى، فيصير أمين السر وأمين المكتبة مدربي عسكرية بالإضافة للموجه والمدير ونائبه، أستاذ الرياضة والمستخدم أحيانًا تصيبهم العدوى فيصبحان مدربي عسكرية أيضًا.
لم نكن طلابًا في طابور صباحي بقدر ما كنا كائنات تافهة تحت الفحص المجهري الدقيق، في كل طوابير الصباح كانت على رؤوسنا الطير..
في أحد الاجتماعات الصباحية التي لم يجد فيها أي مدرب عسكرية مخالفة لدى أيٍّ منا، قلت في نفسي كيف حدث ذلك سيموت المدرب المسكين غيضًا وكمدًا، إلا أنه وجد على غفلة منا ما يشغل به نفسه ويمنّيها فتناول الميكروفون وقال مستدركًا الموقف برمته: طلاب أنتم معرضون أن نأخذكم إلى الجبهة في أية لحظة، لذلك يجب أن تكونوا مستعدين ويجب أن يكون لباسكم العسكري كاملًا وشعركم قصيرًا والبوط العسكري في منتهى اللمعان … وتابع: يجب أن تولوا البوط العسكري مزيدًا من الاهتمام يا طلاب، أنتم تهملون البوط العسكري وهذا لا يجوز مطلقًا.
انقضى الاجتماع الصباحي واستولت علي فكرة الجبهة طوال اليوم، حمدت الله لأنه وهبنا مدرب تربية عسكرية ينظر إلينا في عمر الثالثة عشرة على أننا رجال أشاوس نفل الحديد بعزم شديد، وغفرت له كل العقوبات السابقة، واستيقظ حبه فجأة وسط صدري الطري، وصرت أحدث نفسي وأضع سيناريوهات ذهابنا للجبهة والالتحام مع العدو الصهيوني الغاشم وتلقينه الدروس والعبر، ربما سيصاب المدرب ونسعفه أنا وعبدالكريم وننقذ حياته فتصير علاقتنا قوية وحقيقية، وصرت أقول لزميلاتي الطالبات: قديمًا عرفنا خولة والخنساء وعرفنا كيف تكون البطولة إذا أرادت أن تصنعها النساء، وأتابع: “قرب يومكن ياخواتي..”
طوال اليوم لم انتبه للدروس، ثمة ما هو أهم وأعظم، فقد وقعت تحت تأثير هاجسين عظيمين: الأول كيف سأودع أهلي ولا أعلم في أي يوم سيأخذوننا إلى الجبهة لذلك قررت أن أودعهم يوميًّا دون أن يشعروا، وداعات عن بعد ومتكررة، لن أخبرهم أيضًا بهذا الأمر قد يمنعونني أو يرفضون ذهابي مع الرفاق، أمي ستبكي كثيرًا وأبي ربما لحق بالسيارة التي تقلنا إلى الجبهة وأنزلني في منتصف الطريق، كنت كل صباح أتناول القليل من الزيتون وأتأمل أمي وأبي وإخوتي بصمت، المساكين لا يعرفون أنني ربما في يوم ما لن أعود إلى البيت، لكنهم حين يعرفون أنني أقارع العدو الصهيوني الغاشم سيكونون فخورين بي .
الهاجس الثاني كان يتعلق ببوطي العسكري وبمشكلة بويا الجسر الشهيرة التي تعطيه لونا أزرقَ بشكل منفر، قلت في نفسي: والله عدم وضع البويا أفضل من هذا التشوه البصري الذي تحدثه بويا الجسر، ماذا سيقول المدرب حين يرى بوطي أزرقَ، لا أريد أن يزعل مني هذا المخلوق في هذه الفترة العصيبة من تاريخ أمتنا المجيد، اكتفيت بمسح البوط لسبع مرات بإسفنجة مبللة بالماء، تعبت لكنه لم ينظف تمامًا ولم يلمع أيضًا، تحسرت كثيرًا على بويا بوڤالو لكنها غالية الثمن.
زميلي وابن عمي عبد الكريم كذلك كان من مناوئي بويا الجسر الزرقاء، لكنه استخدم قليلا من الشاي مع الإسفنجة ومسح بوطه فكانت النتائج باهرة.
في اليوم التالي كانت بويا الجسر تسيطر على المشهد السفلي للاجتماع الصباحي، دار مدربو التربية العسكرية متفحصين التزام الطلاب بتلميع أحذيتهم، ومن وسط الجموع خرج عبدالكريم يسير بشموخ قرب مدرب التربية العسكرية وصعد درجات المنصة مبتسمًا، وبدأ المدرب يحكي عن هذا الطالب المثالي بلباسه وهندامه وبوطه الأسود الملمع بعناية، قال له: ما اسم البويا التي تستخدمها يا عبد الكريم؟
فأجابه بثقة: بوڤالو أستاذ بوڤالو…

شاهد أيضاً

عيشة كلاب

المعتز الخضر أوصلتُ ابنتي إلى المدرسة في الصباح الباكر و عُدتُ أدراجي في السيارة الجرمانية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 − ثلاثة =