الأحد , ديسمبر 22 2024
الرئيسية / مقال / أنا من مدينة لاتطل على البحر

أنا من مدينة لاتطل على البحر

يزن المحمد 
أنا من مدينة لا تطلّ على البحر..
تنخفض.. كأنها تغرق في الرمال المتحركة ..
فيها نهر يبتسم لأقدام الفتيات الجميلات..
فيها كلاب شاردة تحرس أبوابها الأربعة من الحزن والغرباء..
فيها ثلاثة أصدقاء لي يقرؤون فولتير ورامبو وعبدالرحمن منيف كل ليلة في قبورهم الدافئة..
فيها صديقان آخران يمسكان النجوم كي لاتسقط في البئر ..
ويعدان الشاي لبقية من رحلوا..
فيها الطرقات تملك حاسّة ثامنة .. وهي الضياع ..
فيها الأرصفة.. تحفظ كل الوجوه.. واذا سألت أحداً عن أحدٍ .. يقول لك .. اسأل ذاك الرصيف..
بيوتها تستلقي على الأشجار.. كشاعر انهكته القصيدة.. فنام طويلاً..

أنا من مدينة لا تطلّ على البحر..
البحر يكتم الأسرار..
وهذي المدينة تفضحها الذاكرة..
ورائحة العطر المصنوع من عرق التعب ..
ورسائل العشاق المكدسة في مركز البريد..
فيها تجد كل أنواع المجانين والمثقفين.. والمساكين..
فيها يجلس القمر في المقاهي كل يوم كي يلعب البوراكو ..
فيها يقاسمك المحافظ و رئيس البلدية.. حصتك من الأوكسجين..
فيها ما فيها من الفقراء والملعونين.. والمكلومين..
فيها يتناول الرجال حبوب منع الحمل.. كي لا ينجبوا الكثير من الهزائم ..
فيها أربعة مواسم.. وخامسها الرحيل..
فيها الأغاني لغة ثانية معترف بها لدى المؤسسات الرسمية ..
فيها الأناشيد تنضج في موسم الحصاد ..
/ حبيبك يا گلب ما عاد / ..

أنا من مدينة لا تطلّ على البحر.. البحر أحجية .. وهذي المدينة لا تعرف الألغاز..
ولا تُكثِر من الأسئلة الوجودية..
ولا ملاحقة المخبرين وأمراء الحرب..
فيها مسرح أحرقه أولاد السفلة..
فيها جسر كُسرت قدماه.. فعجزَ عن الهجرة نحو أوربا..
فيها المساجد تقيم صلاة الغائب كل خمس دقائق ..
فيها من الأنبياء ما يزيد عن حاجتها..
فيها من الوقت ما ينفع للتخمير..
فيها من النفط و القمح الكثير .. فيها من الجوع.. الكثيرَ الكثير ..
فيها من الهواء ما يكفي لمجرة كاملة.. لكنهم أعدوه للتصدير..
هذي المدينة.. مَعقِل التنكير ..

أنا من مدينة لا تطلّ على البحر..
البحر فلسفة..
وهذي المدينة بسيطة جداً.. عادية جداً .. أنيقة جدا .. ورخيصة جداً..
حتى أن الخبز فيها يباع بضحكة ..
كل الوعود الحكومية مقابل نكتة ..
كل الأحلام مقابل دواء للسعلة..
الجريدة الوطنية بإصبع وسطى واحدة ..
أن تشتري زجاجة نبيذ بقلب مهشّم ..
و علبة تبغ بحكاية عن علي بابا والأربعون حرامي ..
في هذي المدينة.. تستطيع أن تراهن على معارك خاسرة ..
تستطيع أن تؤجر ظلّك مقابل مساءٍ قديم..
تستطيع أن تكون بطلاً اذا اشتريت غفوةً بسيطةً من محارب مُقعد ..
في هذي المدينة..
كل شيئ متاح.. إلا النجاح..

أنا من مدينة لا تطلّ على البحر..
البحر أكذوبة واسعة ..
وهذي المدينة .. حقيقة مطلقة .. لكل من عبروا الفرات.. برئة واحدة..
ومضوا نحو الشرق القديم ..
طِبتم..فادخلوها ساكنين ..
واصنعوا من جلدكم حقائباً تكفي لآلاف الخرائط والسجائر والصور ..
بيعوا الريح واشتروا مدينةً لا تحترق..
بيعوا النهر.. واشتروا مركباً لا يغرق..
بيعوا كل ما تملكون.. واشتروا بحراً ..

أنا من مدينة تطلّ على كل شيئ.. إلا البحر ..
البحر لا يساوم..
وهذي المدينة..
أمّ التنازلات.. بداية الموت.. وأختُ النهايات..

أنا من مدينة لا تطلّ على شيئ ..
أنا من هناك..
حيث كل شيئ ..
ولا شيئ .. هناك..

شاهد أيضاً

عيشة كلاب

المعتز الخضر أوصلتُ ابنتي إلى المدرسة في الصباح الباكر و عُدتُ أدراجي في السيارة الجرمانية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد + 18 =