فراس علاوي
سلمية ..مظلومية النظام والثورة
مدينة السلم والأدب، مدينة محمد الماغوط وسواه من الشعراء. لا تقف خصوصيتها عند ذلك بل تتعداه إلى خصوصية إثنية (انتماء غالبيتها إلى الطائفة الإسماعيلية)، فضلاً عن السنّة والعلويين. ورغم أن عدد سكانها لا يتعدى المائتي ألف نسمة إلا أن تأثيرهم في محيطهم وحضورهم في سورية الحديثة كان واضحاً.
تقول ياسمين الدمشقية، وهو اسم حركي لسيدة من سلمية تنتمي إلى الطائفة السنية: لا يعرف أهل سلمية التمييز بين الطوائف، وخاصة فئة الشباب الذين لا يميزون بعضهم على أساس الطائفة. يقول أحد أبناء المدينة: لا يوجد تمييز، فعائلتي نصفها سنّة. وحتى بين الحموية هناك عائلات تزوجت منا والعكس صحيح.
تتابع ياسمين: توجد هذه التفرقة بشكل قليل عند كبار السن فقط، ربما لاعتبارات تتعلق بالمشهد السوري سابقاً. وقد حاول النظام أن يلعب على هذا الوتر لكنه فشل، خاصة عندما واجهه معارضوه فترك سلمية عرضة لسيطرة شبيحته ولاستهداف الفصائل التي تكفر أهلها…
سلمية ونظام الأسد
مثلها مثل مدن ما تسمى الأقليات في سوريا، عمل نظام الأسد على استثمارها سياسياً واجتماعياً. وكما نجح في إقناع باقي المناطق استطاع إقناع نسبة ليست قليلة من أبنائها بأنه حامي الأقليات وأن وجودها مرتبط بوجوده. لكن ذلك لم يمنع وجود معارضة أصيلة لنظام الأسد لدى عائلات كثيرة قدم أبناؤها سنوات من حياتهم وقوداً لهذه المعارضة، فدخلوا سجون النظام باكراً وقضوا فيها زهرة شبابهم. إذ تتميز سلمية بارتفاع نسبة معتقليها السياسيين ومعتقلي الرأي الذين يغلب عليهم التوجه اليساري. فأي شخص من سلمية يعرف أبو علي مصطفى رستم، أحد أبرز معتقلي الرأي في سورية، وكذلك يتذكر علي صبر درويش المعروف بأبو صبر، الذي تقول سيرته إنه، بعد أن كان بعثياً في ستينيات القرن الماضي، عاد من مصر شيوعياً وانضم إلى رابطة العمل، لتبدأ رحلته مع الاعتقال، كما يذكر ابنه الصحفي صبر: اعتقل والدي في العام 1979 وأفرج عنه عام 1981، ومنع من مزاولة عمله بالتعليم بتهمة تخريب الأجيال. وحتى العام 1991 اعتقل مرتين إحداهما حوالي 4 سنوات. كان من قادة الحراك بعد انطلاق الثورة واعتقل أكثر من مرة كان آخرها قرب إدلب حيث كان يقل شباباً مطلوبين لإيصالهم إلى مناطق آمنة، ثم حرّره الثوار بعد سيطرتهم على معمل الزيت قرب سراقب، وأوصلوه إلى منزله. تدهورت صحته بعدها ليتوفى عن 67 عاماً قضى معظمها معارضاً لنظام الأسد.
سلمية والثورة
عند الحديث عن سلمية في الثورة نسمع ذات الأصوات التي سمعناها تتحدث عن مناطق أخرى متهمة إياها بأنها لم تكن منطقة ثورية أو محسوبة على الثورة. ينفي أبناء سلمية هذا الأمر نفياً قاطعاً، ويؤكدون أن كثيراً من أبنائها خرجوا بمظاهراتهم السلمية في وقت مبكر، كما وثق الشهيد باسل شحادة في فيلم يحمل اسم «قرنفل أبيض». وربما ما جعل الأنظار لا تتوجه إليها آنذاك هو وجودها في محيط خرج بمظاهرات مليونية وكان محط نظر الإعلام بسبب خصوصية مدينة حماة مع نظام الأسد. هذا المحيط الذي كانت علاقته معها متناقضة، ففيما كان التنسيق جيداً في فترة السلمية أصبح متوتراً بعد تسليح الثورة، خاصة بعد سيطرة فصائل متشددة مثل جند الأقصى وغيرها على جزء من المشهد المسلح بريف حماة.
وتؤكد ياسمين أن المرأة السلمونية -كما ينادى أهل سلمية- شاركت في المظاهرات، واعتقلت الكثير من الفتيات والنساء، ومنهن من تعرض لتعذيب وضرب مبرح داخل السجون. كما أسهمت في العمل المدني واستقبال النازحين وغيره من أنواع العمل الثوري.
يقول راوي ريس، وهو اسم حركي لأحد متظاهري المدينة ومعتقليها: خرجت سلمية بمظاهراتها في وقت مبكر من عام 2011، وكان بعض أبنائها قد خرجوا قبلاً بمظاهرات في دمشق. شارك أبناء سلمية بكافة أطيافهم، مما أحرج النظام الذي حاول أن يصوّر الثورة بشكل طائفي، لكن المشاركة كانت فعالة وواضحة رغم تجاهلها من قبل بعض وسائل الإعلام.
فقد شارك الآلاف من سكان المدينة بمظاهرات يومية رافعين شعارات الإصلاح في البداية، كباقي المدن، ولنصرة درعا وبانياس في ذلك الوقت. وكان النظام يخرج شبيحته لمواجهة المظاهرات وقمعها، مع الحرص على عدم استخدام الرصاص لأنه يعرف أن القتل المباشر سيحرجه أكثر ولن تهدأ الأمور بعدها، وهذا أمر لم يكن يريده في مناطق الأقليات. ولذلك اعتمد سياسة التهديد والاعتقال والإيذاء الجسدي وحتى الاغتيال، وبعد كل مظاهرة كان يعتقل العشرات.
أبرز محطات الحراك السلمي
كان تشييع جمال الفاخوري أحد محطات المظاهرات في سلمية، وهو معارض قتل في دمشق قنصاً. قبل هذا التشييع كان الأمن يتعامل مع المظاهرات بعنف أقل، إذ كان يضرب المتظاهرين بالهراوات والعصي ويطلق النار في الهواء، لكن الأمر اختلف هذه المرة حسب ما أخبرنا راوي، حين خرج الآلاف لتشييع الفاخوري واستهدفتهم قوات الأمن بالرصاص الحي، فأصيب العشرات قرب المقبرة بمحيط المدينة واستشهد علي قطريب.
كما لجأ النظام إلى سياسة الاغتيالات عندما اغتال كريم نصرة في مزرعته، وهو معارض كان من رفاق ملهم رستم أحد ناشطي المظاهرات في سلمية.
وكانت أكبر مظاهرات سلمية هي تشييع الشهيد ملهم رستم، الطالب الجامعي الذي استشهد في الرستن حين كان ينقل الأدوية والمساعدات الطبية إلى تلك المدينة.
برز من شباب الحراك السلمي في سلمية حازم رستم ومولود محفوض ونوار ياغي وكثيرون، بوجود مناضلين مخضرمين مثل المرحوم أبو صبر درويش وأبو علي رستم.
كيف تعامل النظام مع الحراك السلموني
حكم النظام المنطقة عن طريق شبيحته، خاصة من العائلات العلوية التي كانت تقطن سلمية وهي أقلية فيها، لكن التشبيح لم يكن حكراً عليها. فكان هناك شبيحة من عائلات مثل سلامة ودردر وحمدان، وهي عائلات علوية. وبرزت شخصيات لم تكن معروفة مثل صخر أبو حبلة ووائل جاكيش الذي قتل منذ مدة. وتبقى الشخصية الأبرز هي فاضل وردة قائد الدفاع الوطني في سلمية.
على المستوى الديني التزم زعيم الطائفة الإسماعيلية الصمت واقتصر دوره على المساعدات الإنسانية، رغم أن والد فاضل وردة، الدكتور محمد، هو رئيس المجلس الإسماعيلي، وهو، كغيره من رجال الدين في سورية، يحظى بدعم النظام.
الحراك المسلح
لا يوجد حراك مسلح واضح المعالم في سلمية، لكن هناك المئات من المنشقين الذين شاركوا في تشكيل كتائب الوحدة الوطنية. ومع دخول الفصائل المسلحة، خاصة الإسلامية منها، وتكفير بعض الشباب، فشل عملهم مع أنهم كانوا من جميع الطوائف، فخرج أغلبهم إلى تركيا.
سلمية تستقبل النازحين
استقبلت سلمية النازحين إليها، وخاصة من حماة وحمص، فسكنوا بيوتها وعوملوا معاملة الإخوة. ولا زال الكثيرين منهم موجوداً فيها حسب راوي. وكان الناشطون يجمعون المساعدات من الأهالي بين عامي 2012 و2014، حتى خرج بعدها كثير من الناشطين بسبب التضييق الأمني.
سلمية تحت النار
بدأت العلاقة المتوترة مع المحيط مع تغير الأجندات العسكرية حول سلمية، وخاصة مع وصول داعش إلى حدودها. وهو ما استفاد منه النظام الذي جعلها بين نارين؛ نار القصف من تلك التنظيمات ونار الشبيحة.
فالنظام الذي لم يستطع إطلاق تهمه المعتادة على ثوار وناشطي سلمية، من الإرهاب والسلفية والإخوان، بسبب العامل الطائفي، لجأ إلى أساليب أخرى أهمها تسليط شبيحة المدينة على ثوارها، فعاثوا فيها فساداً. ومن جهة أخرى يتم استهداف سلمية من قبل تنظيم داعش بشكل متكرر، ما جعل أهلها يعيشون رعباً حقيقياً من قذائفه التي كان آخرها اجتياحه الريف الشرقي لها وقتل عدد من المدنيين من مختلف الطوائف.
المدينة المهاجرة
ربما بسبب الوضع الخاص لها، وبسبب الطبيعة الثقافية والمهنية لأهلها، شهدت سلمية هجرة الكثير من أبنائها إلى خارج حدود الوطن، وأغلبهم من حملة الشهادات. الدكتورة غادة، المقيمة في أوربا، تقول: المهاجرون خليط أبرزهم الشباب، وقد ازداد عددهم بعد الثورة بشكل كبير، هاربين من الخدمة الإلزامية ومن تصرفات النظام وشبيحته. لا تملك الطائفة الإسماعيلية التسهيلات ذاتها التي حظي بها المسيحيون السوريون. ويتوزع أبناء سلمية في عموم أوربا، وأغلبهم يحلم بالعودة إليها….
نشرت بمجلة عين المدينة… آب / 2017