الشرق نيوز
هيئة التحرير
لم يكن الوضع الداخلي السوري سياسياً و إقتصادياًمنفصلا عن تفاعلات الدول الكبرى و اختلاف استراتيجيات تلك الدول و استلزامات ذلك على الإقليم بتنوّع مصالح دوله ، لا بل يمكن القول أنه يعتبر صدى عن ذلك. و منذ الإستقلال الذي لم يكن إلا صدى للخلافات بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية و حتى وصول حافظ الأسد للسلطة، لم يكن من الصعب فهم تطورات الوضع الداخلي السوري بالاكتفاء بسبر التغيرات في العلاقات الدولية و الإقليمية منها، و خاصّة فيما يتعلق بالصراع الروسي الأمريكي الذي أُضيف إليه عامل آخر له مساهمة واضحة في تبريده أو تسخينه متمثلا في (دولة) إسرائيل ككيان مستحدث في المنطقة.
و إذا ما كان حافظ الأسد قد أجاد توظيف رغبة قطبي العالم آنذاك في تأمين التوازن المطلوب في المنطقة الذي يحفظ أمن إسرائيل، و إذا ما كان قادراً على مسك عصا الإيديولوجيا الشرقية السوفييتية و الغربية الأمريكية المتنافرة من المنتصف لفرض نفسه كحاكم يحفظ استقرار سوريا من وجهة نظر كل من السوفيت و الامريكان، فإنّه لم يغفل تأثير الدول الاقليمية الكبرى مصر و السعودية و حساسيتها من التوسع المعنوي الإيراني. و لم يكن حافظ الأسد يستغل هذه الورقة في سياق صراعه البعث العراقي فقط، و لكنّه أيضا وجدها فرصة لفرض نفسه لاعب إقليمي بحكم أنّه رئيس الأمر الواقع في سوريا و يتحكم بطرق الوصول الإيرانية لكل من لبنان و جنوب سوريا أو شمال إسرائيل. و لكن لم يغب عن بال حافظ الأسد ضرورة أن يكون التعامل مع ورقة العلاقات مع إيران كتكتيك سياسي أو كفرصة المناورة، فنجد أنه كان حريصا على معاملة الإيرانيين كندّ و ليس كتابع، و هذا ما فتح له المجال لفرض نفسه و نظامه في الإقليم إضافة لنقطة هامة وهي الحفاظ على مستوى واحد من العلاقة مع إسرائيل متمثلاً بالتراشق السياسي دون فاعلية حقيقية بل على العكس فقد أصبحت سياسة ضبط النفس والإحتفاظ بحق الرد هي السمة الغالبة التي طبعت النظام السوري والتي استمرت فيما بعد بوصول بشار الأسد للسلطة.
و لم تتغير سياسة النظام في سوريا في علاقته الخارجية مع إيران و التي كانت قائمة على الموازنة الإقليمية إلا بعد وصول بشار الأسد للسلطة، و الذي أبدى تخبطاً في موازنة علاقات سوريا الخارجية و الإقليمية. وقد يكون لغزو العراق دوراً في تعزيز هذه العلاقة عسكرياً، وصل لدرجة توقيعه مع إيران معاهدة دفاع مشترك، اعتبرت فيها إيران أن أمن سوريا هو من أمن إيران. و لكن لا يمكن فصل هذا التطور عن تطورات إقليمية ليس أولها غزو العراق و لا الضغط المستمر على النظام لسحب قواته من لبنان و خاصة بعد إغتيال الحريري و اتهام نظام الأسد بذلك، وإنما قد يكون مرد دلك لأن سوريا بنظر إيران تعتبر درة تاج النفوذ الإيراني، و رهانها الجيوسياسي في صراعها مع الغرب و كعمق استراتيجي لاستخدامها كورقة ضغط في مفاوضاتها حول الملف النووي الإيراني الذي بدأ فعليا منذ عام 2003.
و لكن يمكن القول أن التحول الأكثر جذرية في النظرة الإيرانية لسورية هو مع إندلاع الثورة السورية و التدخل الإيراني المباشر بقواتها و خشيتها من خسارة سوريا، و الذي قوبل أيضا بدعم قوي للمعارضة لإرغام إيران على توقيع الاتفاق النووي و الذي تم في عهد أوباما. و لكن تطورات الأوضاع بعد ذلك أثبتت أن الإتفاق كان سبباً في تزايد النفوذ الإيراني الذي أقلق كل من إسرائيل و الدول الإقليمية و على رأسها السعودية، و لذلك لم يكن من الممكن من وجهة نظر هذه الدول أن يكتب له النجاح ، فمع وصول ترامب للسلطة كانت الخطوات تتسارع لإلغاء الإتفاق و الذي تم فعلا مع تأييد واضح من كل من إسرائيل و السعودية و الإمارات ..
السؤال الذي تلا إلغاء الإتفاق النووي مع إيران تمحور حول جدوى الجهود السياسية و الديبلوماسية المتمثلة بالغاء الاتفاق النووي لإلزامها بالإنسحاب من سوريا و المنطقة عسكرياً ووقف برامج الصواريخ و البرنامج النووي و العودة لحدودها الطبيعية؟
فمنذ بداية الثورة في سوريا و التي اعتبرتها الدول المنخرطة و المعادية لإيران كقاعدة للجم النفوذ الإيراني، لم يكن من السهل فعلاً طرد إيران عسكرياً و ذلك لتشعب علاقات إيران الدولية وإيجادها لأذرع تخدم سياساتها في المنطقة وفي العالم بما فيه الداخل الأمريكي و خاصة مع الديمقراطيين و كذلك نتيجة لثمان سنوات من التساهل الأمريكي مع إيران في عهد أوباما و الذي أعانها على تعزيز قدراتها، عدا عن استغلال خصوم إدارة ترامب للتواجد الإيراني، و لا يخفى أيضا استغلال روسيا للتواجد الإيراني في محاولة للضغط و الابتزاز لفرض بقاء الأسد مقابل إخراج إيران.
و لا يخفى عن أي مراقب أن تطورات الأوضاع هذه مع الخلافات الحادة مع الصين مع قيام الأخيرة أيضا بدعم إيران كرد على الإدارة الأمريكية في سياستها التحارية والتي تعمل على حصار الصين من جهة ومنافستها تجارياً ، فرضت على الإدارة الأمريكية التواصل مع الاسرائيليين و الروس لإعادة رسم خرائط التدخلات في المنطقة بما فيها شواطئ البحر الأبيض المتوسط …
الاجتماع الثلاثي في نهاية هذا الشهر في القدس، و قد يكون إختيار القدس له رمزية بعد إعلان ترامب القدس عاصمة( لإسرائيل) فيما تعتبر موافقة روسيا على ذلك رسالة ود لاسرائيل أيضاً .و في هذا السياق لا يمكن تجاهل مرواغة روسيا في تنفيذ تعهداتها بالسعي لإخراج ايران مقابل السماح لها بالسيطرة على الجنوب السوري و بانتشار قوات( الجيش السوري النظامي ) ضمن اتفاق فصل القوات الموقع عام 1974.
و من المهم الإشارة هنا إلى أن الإجتماع القادم هو على مستوي المسؤوليين الأمنيين (رؤساء مجالس الامن القومي ) في كل من روسيا و أمريكا و إسرائيل. فما الذي تريده كل دولة من الدول الثلاث من إجتماع القدس؟؟؟
بداية لا يمكن أبدا إعتبار أن هناك إتفاق أو تطابق تام في وجهات نظر الدول الثلاث و استراتيجياتها في المنطقة، و لذلك فإن الضرورة الموضوعية تقتضي التفصيل و الإبتعاد عن الشمول و الإجمال.
و لكن من الضرورات الموضوعية أيضا عدم اعتبار أنّ اهتمام كل من أمريكا و اسرائيل ينصب فقط على الملف النووي الإيراني، فهذا لا يعتبر الا عنواناً عريضاً مستفزاً للحشد ليس أكثر، بينما تعتبر سوريا ساحة الصراع و تصفية الحساب، و يمكن أن تكون أيضا قاعدة لتشكيل جيوسياسي إقليمي و دولي جديد يمتد من غرب المتوسط حتى القوقاز و محيط الصين و كذلك محيط روسيا الحيوي و فوز أي طرف فيها يعني خروج الآخر من المشهد الدولي أو تفكيكه لمشروعه الذي يعمل على تعويمه عالمياً وحشد كل الإمكانات لتطبيقه .
روسيا تعتبر أن سوريا هي عقدة لربط جميع مصالحها على المتوسط و في الشرق الأوسط وصولاً للقوقاز و حتى البلقان و بالقرب من المضائق الدولية التي تعتبر منفذها الوحيد للوصول للمتوسط، بالإضافة للطرق البرية التي تربط الساحل السوري بحلب فتركيا و التي تسعى روسيا للسيطرة عليها.
و لكن روسيا تدرك بالوقت ذاته أن التفاهم مع إسرائيل مطلوب بل هو ضروري، فهل ستسغل روسيا الفرصة لتقديم تنازلات سياسية لإسرائيل فيما يخص موقفها من ضم الجولان و الإعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل؟؟
في جميع الأحوال فإنه لا يمكن الإعتقاد أن روسيا تعتبر الحفاظ على بشار الأسد أولوية استراتيجية لها ، فمتى ما وصلت لتفاهم ما مع كل من أمريكا و إسرائيل للاعتراف لها بمصالحها في سوريا، فالتخلّي عن بشار قد يكون سهلاً وربما يكون ورقتها الأخيرة التي تساوم عليها في سوريا .
و إذا كان اهتمام روسيا بسوريا هو في سياق رغبتها بالرجوع كقوة عظمى في العالم ذات تأثير سياسي يبحث عن علاقات إقتصادية جديدة وعن أسواق جديدة للغاز ومشاريع نفطية وسكك حديد في العديد من دول العالم …
فإن إهتمام إسرائيل في سوريا لا يتجاوز الملف الأمني و الذي توليه إدارة نتنياهو أهمية كبرى. فما تريده إسرائيل هو حماية الحدود و إبعاد إيران عن جنوب سوريا كأولوية أمنية لها ، بذات الوقت لن تكتفي إسرائيل بإبعاد إيران عن كامل سوريا و خاصة إذا ما كانت التقارير التي تؤكد أن إيران تسعى لاعادة العمل ببرامج صواريخ بعيدة المدى في سوريا صحيحة ، و لا تمانع إسرائيل فيما إذا كانت شريكا في اعمار سوريا عن طريق شركات متعددة الجنسيات أو استثمارات عن طريق طرف ثالث ، فتكون مكاسبها أمنية و إقتصادية.
و فيما يخص الحاضر الثالث وهو الغائب الحاضر دائماً في المنطقة
واللاعب الرئيس في اجتماع القدس وهو أمريكا، فإنّه لا يمكن اختزال مطالبها فقط بإخراج إيران من سوريا و بإلزامها بوقف برامج الصواريخ و البرنامج النووي. فبعد التوافق في دوائر صنع القرار الأميركية على بقاء متوسط إلى طويل الأمد في سوريا و توسيع تواجدها ليصل للخليج و المتوسط و تواجدها في القوقاز و إصرارها على البقاء في تركياوإبعاد تركيا عن روسيا، فما تريده أمريكا هو إعادة ضبط موازين القوى بعد تخلخلها بسبب سياسة إدارة أوباما، عدا عن رغبة أمريكا في التفاوض مباشرة مع روسيا في القدس بمشاركة إسرائيل فيكون الضغط مزدوج على روسيا، و يكون الهدف الظاهر إخراج إيران من سوريا و لكن هدف البعيد هو أبعاد روسيا عن الصين و قضايا أُخرى مرتبطة بمعاهدات الحد من السلاح النووي و الصواريخ بعيدة المدى، عدا عن رغبة أمريكية حقيقية بإلزام روسيا بأن تكون معيناً على البدء بحل سياسي وفق جنيف في سوريا، يحمّل روسيا التزامات و تعهدات في سوريا بخصوص أمن إسرائيل و عدم العودة لاستخدام الكيماوي أو أي برامج مرتبطة بالنووي أو ببرامج الصواريخ بعيدة المدى التي تسعى إيران لبنائها في سوريا و التي يتم الحديث عنها في الدوائر الإسرائيلية و الأمريكية.
و بكل تأكيد لا يمكن إغفال ملف أسعار النفط إذا ما علمنا أن روسيا من أكبر منتجي النفط في العالم و الذي يمكن أن يؤثر توظيفه من قبل روسيا على أسعار النفط الصخري الأمريكي.
و بعيداً عن لغة التبسيط السائدة و التي من أحد مظاهرها الحديث عن صفقة أمريكية روسية لبقاء الأسد مقابل مشاركة روسيا بإخراج إيران، فإنه و مع تعقيد الملف السوري و ارتباطه بلمفات عديدة خارج سورية، فإن الحديث عن صفقة أمريكية روسية مستدامة، قد يكون ساذجا. فلكل طرف من المجتمعين أوراق ضغط و ملفات أُخرى توظفها للضغط قد يكون آخرها بشار الأسد، فالحديث عن تفاهم أو تقاسم مصالح و اعتراف كل طرف بحدود و نفوذ الطرف الآخر، و الاعتراف بطبيعته الاستراتيجية التي تتجاوز أهميتها أهمية الأشخاص و في الحالة السورية يتعداها لتوجه سوريا في المستقبل و استراتيجياتها الخارجية و تعاملها مع جيرانها.
نعم نظرياً يمكن الحديث عن صفقة، لكن عملياً و على طاولة التفاوض سيكون ذلك أعقد مما يتم تداوله حول صفقات جاهزة ، خاصة أن المتفاوضين يملكون إرث كبير من الخلاف في ملفات عدة و تاريخهما بمعظمه صراع بارد.
و يبقى السؤال هو هو ، عند الحديث عن أي إجتماع أو تفاوض حول الملف السوري: هل سيتم الاتفاق على التفاصيل التي سيبحثها المشاركون في اجتماع القدس، حتّى يتم التصديق عليها من قبل القيادات السياسية العليا في الدول الثلاث؟؟؟
و مما يدعو للبحث في تفاصيل الإجتماع فإن اجتماع مسؤولين أمنيين يشير لإحتمال العودة بالملف السوري للصفر فالمسوؤلون الأمنيون لا صلاحية لهم سوي بحث التفاصيل و الاتفاق عليها ، عدا عن أن التعامل مع سوريا كملف أمني قد يعني تغيير في استراتيجية الدول اتجاه سوريا و خاصة الاستراتيجية الأمريكية التي اعتمدت في الفترة الماضية على تبريد الصراع المسلح الشامل بالوكالة بين المعارضة و قوات النظام في سوريا و اعتماد الحرب الاقتصادية و الضغوط السياسية. و كيف ستكون تجليات الاتفاق إذا ما حدث ، على الحل السياسي في سوريا و على مستقبل سوريا سياسياً و ادارياً و هيكلياً
فشل هذا الإجتماع يترتب عليه ترتيبات أخرى ستظهر على الوضع السوري بشكل خاص ،فقد يترتب عليه إعادة تفعيل لغرفة الموك و استراتيجية الحرب بالوكالة من أجل الضغط على الروس وتفعيل الجبهات الباردة وبالتالي القضاء على المشروع الروسي القائم أساساً على مناطق خفض التصعيد و ذلك بعد التصعيد الإيراني المتعمد الحادث في مياه الخليج و خشية إدارة ترامب من شن ضربات مباشرة على إيران و هو على مشارف موسم انتخابي حاسم؟؟
تسخين المواقف قبل الإجتماع هو رسائل من جميع الأطراف من أجل رفع سقف التفاوض ، كذلك فإن قيام إيران بخلط الاوراق مجدداً هو أحد أساليبها في التشويش على الإجتماع والنتائج المترتبة عليه..
التخوف الإيراني مرده إلى نجاح الأمريكان بتفكيك التحالف الروسي الإيراني الذي أنتج توافق مع الجانب التركي منتحاً توافقات استانا والتي اعتبرها الروس نصراً سياسياً لن يفرطوا به بسهولة
وبالتالي فإن التوصل لأي توافق بين الروس والأمريكان سنسحب على الوجود الإيراني وقدرته بالتأثير في الوضع السوري
من المبكر الحديث عن نتائج سريعة لهذا الاجتماع لكن من المؤكد أن له تبعات على الأرض السورية في حالتي النجاح والفشل
لكن ضريبة فشل الاتفاق ستكون أكبر من خلال إعادة تسخين مناطق خفض التصعيد والعودة للحرب بالوكالة بين جميع الأطراف
ولاتبدو صفقة الS400 بعيدة عن مجريات الاجتماع فهي ورقة يمكن لكلا الطرفين استخدامها في الضغط على الطرف الآخر ففيما يستخدمها الروس باعتبارها اختراق للتحالفات الأمريكية في المنطقة وخرق لحلف الناتو وبالتالي يمكن التعويل عليهافي الحصول على تنازلات في مناطق اخرى
يستخدمها الأمريكان كذريعة لمهاجمة التدخل الروسي في الشؤون الداخلية للحلف وبالتالي حشد دولي ضد هذا التدخل يضمن وقوف جميع أعضاء الحلف في الجانب المعادي للتدخلات الروسية مع الإشارة لامتعاض غربي من التمدد الروسي في الشؤون الداخلية لكثير من الدول ..
إجتماع القدس سيكون نقطة فاصلة في أحداث المنطقة سواء حالف النجاح هذا اللقاء أم كان مصيره الفشل …