سوريا.. بين ضعف الاقتصاد وسردية الغرب
أنس المحمد
تواجه الحكومة السوريةتحديات داخلية وخارجية، فبعد السقوط السريع للنظام البائد في ديسمبر الماضي تولت “حكومة الإنقاذ” التي كانت تقود الحكم في إدلب، إدارة مرحلة المرحلة،وأصبحت حكومة تصريف أعمال ومع الإرث الثقيل الذي ورثته تضاعفت التحديات أمام الحكم الجديد لكن تبقى الأولوية للأمن والاقتصاد وما يصعب هاتين الأولويتين هو ارتباطهم بعوامل خارجية وصولاً إلى ارتباطهم ببعضهم البعض فبعد “تمرد فلول النظام في الساحل” وما رافقه من تحريض ومزاعم لعمليات قتل خارج القانون ومحاولات حثيثة لتحميل الحكم الجديد مسؤولية هذه الدماء تجلى بشكل واضح الترابط الوثيق بين الأمن والاقتصاد؛ فبعد سقوط النظام البائد سارعت حكومة تصريف الأعمال والعديد من الناشطين والمثقفين ورجال الأعمال السوريين للمطالبة برفع العقوبات عن سوريا، وقد قوبل هذا المطلب بشروط أوربية وأمريكية مع العلم أن هذه العقوبات فرضت على النظام البائد بسبب جرائمه الممنهجة ضد الشعب السوري،
وهذا ما تعتمد عليه الحكومة الجديدة وداعمي إزالة العقوبات في خطابهم، لكن أوربا ومع الضغط الدبلوماسي وافقت على إزالة محدودة لبعض العقوبات ثم تابعت بذلك الولايات المتحدة مشددين على شروطهم بأن (إزالة العقوبات مرتبط بمدى اشراك جميع أطياف الشعب السوري في الحكومة) والحديث هنا واضح ومبطن بنفس الوقت فالواضح حكومة شاملة تضم (الأقليات) وتمثلهم والمبطن أن حكومة ليست على مقياس شروطنا لن تساهم برفع العقوبات؛ هذه السردية هي أهم عامل خارجي يمكن للغرب النفوذ منه إلى دول ك سوريا ولبنان والعراق.
نعم لقد حصل بعض الأخطاء أدت بشكل غير مباشر إلى اندلاع تمرد الساحل واتساعه ومع اتساع هذا التمرد حصلت بعض انتهاكات التي اعترف بها السيد الرئيس أحمد الشرع.
سارعت الأطراف الدولية للاستفادة بالحد الأقصى مما جرى بالساحل محاولين تلافي خطأ ترددهم عند سقوط الأسد أو مندفعين لإملاء شروطهم على النظام الجديد وقد أصبحت ورقتهم (حماية الأقليات) أقوى.
بغض النظر عن موقف إيران وروسيا وحديثهم ونقدهم للحكم الجديد في مسعى طبيعي للتغطية على فشلهم في الملف السوري على مدى سنوات؛ فاللافت كان الموقف الأوروبي الذي رفع الصوت عدة درجات وربط ما جرى بالساحل وسردية الأقليات مع إزالة العقوبات الاقتصادية بشكل كامل.
وسرعان ما رفعت الولايات المتحدة السقف وأعلنت مع روسيا عقد جلسة طارئة وسرية لمجلس الأمن لبحث تطورات المشهد السوري تمخض عنها قرارات معلنة ويقال أخرى سرية حيث انتقد البيان الحكومة السورية بعصا مرنة وغمز من عدة قنوات على سردية ربط الأمن بالاقتصاد؛ والأمن هنا مصطلح يشمل الأقليات وحمايتهم وإمكانية تدخل جهات خارجية عبرهم بالشأن الداخلي السوري وهو ما برز واضحاً عند الفرنسيين الذين كان خطابهم الأعلى أوروبياً ونبرتهم الأقرب للحقيقة.
حيث نشر الدبلوماسيون الفرنسيون والرئيس ماكرون الكثير من التغريدات وأدلو بتصريحات تدعو بصراحة إلى حماية “العلويين” وعلاقتهم الوطيدة مع هذه الطائفة وربط عجلة الاقتصاد السوري برفع “الظلم” عنهم.
وبالرغم من تصريح ممثلي الاتحاد الأوربي أن الانتهاكات التي حصلت في الساحل ارتكبت من فلول النظام إلا أن خطابهم لم يخلوا من رسائل تحذير للحكومة الجديدة فقال وزير الخارجية الإيطالي(انطونيو تاجاني): “إن مشاركته في مؤتمر بروكسل هدفه العمل نحو عملية سياسية سلمية وشاملة تحمي أمن وحقوق جميع (المجتمعات) السورية” إن مصطلح مجتمعات في تصريحه كافي بشكل قطعي أن ما حصل بالساحل عزز من سرديتهم وجعلهم يرفعون الصوت بها في كل مناسبة.
كذلك أوحى لنا عن الاستفزاز الأوربي تصريح وزير الخارجية الشيباني قبل الذهاب لبروكسل لحضور مؤتمر المانحين عندما رفض ربط المؤتمر باستفزاز حكومته ووضع الشروط المسبقة عليها وجعل هذا سبباً لعدم المشاركة؛ في إشارة منه إلى أن المؤتمر كان يعقد في زمن النظام البائد ويمنحه جزءاً مالياً من مخرجاته دون تأنيبه أو إدانته على أفعاله ضد الشعب السوري أو وضع شروط مسبقة قبل منحه الجزء المالي المخصص لمناطق سيطرته.
ورغم الحديث عن المبلغ الذي قيل أنه مجموع المنح لسوريا ٥.٨ مليار يورو (منح وقروض) وتداول أرقام فلكية أخرى فقد حذرت لجنة الإنقاذ الدولية “من أن انخفاض قيمة التعهدات التي أعلنتها الدول المانحة ضمن مؤتمر “بروكسل ٩ بنسبة ٢٩% عن تعهدات العام الماضي، لن تكفي لسد فجوة التمويل المتزايدة التي لا تزال تعيق الاستجابة الإنسانية بشدة”.
هذا الانخفاض هل يحمل في طياته الاعتراف بالتغيير الذي طرأ على سوريا والسوريين؟
وبالتالي تقليله تباعاً باعتبار القتل توقف والأسد هرب ومرحلة جديدة بدأت أم أنه رسالة للحكومة الجديدة أن الانتهاكات ضد أقلية أو أقليات أخرى يترتب عليها فاتورة معينة جزء منها مادي.
يُظهر تفاعل واهتمام الجانب الأوروبي بالشأن السوري بشكل واضح وأكبر من اهتمام الولايات المتحدة التي تركز على إنهاء الحرب الروسية لكن بعضهم يتجه أن الاهتمام الأوروبي المتزايد تدريجياً يعود إلى ثقل ملف اللاجئين ورغبة أوروبا بضمان عودة طوعية أو “بقناة سياسية” للاجئين السوريين وطوي صفحة بدأت قبل عشر سنوات بإعلان ميركل فتح أبواب أوروبا للسوريين الهاربين من بطش النظام؛ هذا الاتجاه نفسه يدفع بأن الولايات المتحدة ورغم ضعف اهتمامها المعلن بسوريا “إعلامياً” على الأقل فذلك يعود إلى تماهي موقفها مع الموقف الاسرائيلي الرافض لوجود حكم إسلامي على حدودها، وما رَفع الولايات المتحدة لبعض العقوبات عن سوريا إلا استجابة لبعض الأصوات التي ساندت ترامب في حملته الأخيرة والتي انتهت بتنصيبه رئيساً للمرة الثانية للبيت الأبيض.
رغم مرور عدة أشهر على رحيل النظام البائد لا يزال الشعب السوري يعاني من تبعات العقوبات الاقتصادية التي شلت عجلة الاقتصاد في سوريا ولم تنتهِ بانتهاء حقبة الأسد، لكن اتخذت أبعاد وشروط جديدة جعلت حتى من قامت على اسمه وتيمناً ببطولاته “قيصر” يرفع الصوت وينادي بإلغائها نظراً لما أحدثته وتحدثه من فقر وبؤس للشعب السوري؛ كما لا تزال المطامع الإقليمية والدولية تحوم على كامل جغرافية سوريا هذه المطامع التي تتجلى في التدخل أحياناً بلون طيف من أطياف المجتمع السوري وتحريضه والعبث بقراره الداخلي مما يؤزم موقف الحكم الجديد، فتحصل توترات تتطور أحياناً إلى استخدام السلاح فتنفذ تلك الجهة الإقليمية أو غيرها من هذه الثغرة إلى محاولة توريط الحكم الجديد ووضعه تحت دائرة الاتهام فتتعالى أصوات الغرب (أوروبا وأمريكا) ويؤجل ملف إزالة العقوبات وتوضع شروط جديدة.
وبين معادلة تمكين الاقتصاد (رفع العقوبات) وبسط الأمن (الحفاظ على السلم الأهلي العام دون احتكار طيف أو لون معين) يبقى الشعب السوري أكبر المتضررين والخاسرين في هذا الصراع القديم والجديد الذي فرضته تفاهمات دولية قديمة وحديثة ويبقى الشعب السوري يعيش في وضع اقتصادي صعب، على الرغم من المحاولات للخليجية (السعودية وقطر) وتركيا في مد يد العون قدر الإمكان والالتفاف على العقوبات الاقتصادية أو الحصول على تمييز أو ترخيص ما.
كما يبقى الشعب السوري يدفع أعلى وأغلى فاتورة لأعظم ثورة ضد الطغيان والاستبداد عرفها التاريخ الحديث.