(تفكك أذرع إيران : ملامح مرحلة جديدة في الشرق الأوسط)
عبدالله عبدون
ما يحدث اليوم في العراق ليس مجرد فصل جديد في كتاب الصراع الإقليمي بين إيران والولايات المتحدة، بل هو انعطافة قد تعيد تعريف حدود النفوذ الإقليمي وتُعيد تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط بأسره. النظام الإيراني، الذي استطاع لسنوات استخدام العراق كمنصة لتنفيذ أجندته الإقليمية، يواجه الآن خطر فقدان هذه الساحة الحيوية مع التحولات القادمة في السياسة الأمريكية تحت إدارة دونالد ترامب. في هذا السياق، يبدو أن ميليشيات الحشد الشعبي، التي مثلت لعقدٍ من الزمن العمود الفقري للنظام الإيراني في العراق، على وشك أن تفقد دورها بالكامل، ما قد يؤدي إلى تداعيات استراتيجية تتجاوز حدود العراق لتصل إلى قلب طهران. السياسة الإيرانية تجاه العراق قامت على أسس واضحة: تحويل هذا البلد إلى عمق استراتيجي ومجال حيوي لنفوذها الإقليمي. ومنذ سقوط نظام صدام حسين، استثمرت طهران في خلق شبكة من الميليشيات المسلحة والأحزاب السياسية الموالية التي تعمل كامتداد لنفوذها. الحشد الشعبي، الذي وُلد من رحم فتوى “الجهاد الكفائي” ضد تنظيم داعش، كان التجسيد الأبرز لهذه الاستراتيجية. ومع الوقت، تجاوز دوره محاربة الإرهاب ليصبح لاعباً رئيسياً في المشهد السياسي والأمني العراقي، محققاً لطهران مكاسب استراتيجية مهمة. ولكن هذه الاستراتيجية التي بدت ناجحة لسنوات بدأت تتفكك تدريجياً. داخلياً، فقد الحشد الشعبي الكثير من شرعيته نتيجة الانتهاكات الممنهجة التي ارتكبتها بعض فصائله، والاتهامات بالفساد، فضلاً عن تصاعد الوعي الوطني العراقي الذي بدأ ينظر إلى هذه الميليشيات كأداة أجنبية تُهدد سيادة البلاد. المظاهرات الشعبية التي اندلعت في بغداد ومدن الجنوب منذ 2019 كانت رسالة واضحة: الشارع العراقي لم يعد يقبل النفوذ الإيراني بأي شكلٍ من الأشكال، بما في ذلك أدواته المتمثلة بالحشد الشعبي. على الصعيد الخارجي، جاءت الضربة الأكثر إيلاماً من الولايات المتحدة. إدارة دونالد ترامب، التي بدأت ولايتها الأولى بسياسة “الضغط الأقصى” على إيران، استهدفت مباشرةً رموز النفوذ الإيراني في العراق، وعلى رأسهم قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، في عملية اغتيال صدمت العالم لكنها بعثت برسالة واضحة: واشنطن لن تسمح باستمرار النفوذ الإيراني غير المقيد في العراق. ومع عودة ترامب إلى المشهد، يبدو أن هذه السياسة ستتخذ أبعاداً أكثر حدة. التقارير التي تتحدث عن تعزيز كبير وسري للقوات الأمريكية في العراق وسوريا تُشير إلى أن واشنطن تُعد العدة لمعركة حاسمة تهدف إلى إنهاء النفوذ الإيراني في العراق تماماً. هذه التحركات الأمريكية تتجاوز مجرد استهداف الميليشيات أو تحجيم دور الحشد الشعبي. إنها محاولة لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للعراق والمنطقة بأكملها. سقوط الحشد الشعبي لن يكون مجرد هزيمة تكتيكية لإيران، بل سيكون ضربة استراتيجية ستُضعف قدرتها على التوسع الإقليمي وتضرب أسس استراتيجيتها الدفاعية التي تعتمد على إنشاء “محور مقاومة” يمتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق. الأهم من ذلك، أن انهيار النفوذ الإيراني في العراق قد يُسرّع من انهيار النظام في طهران ذاته. النظام الإيراني، الذي يُعاني بالفعل من ضغوط اقتصادية خانقة واحتجاجات شعبية متكررة، يعتمد بشكل كبير على نجاح مشاريعه الخارجية لتثبيت شرعيته الداخلية. إذا فقدت طهران العراق، فستفقد واحدة من أهم أدواتها للضغط الإقليمي والتمويل غير المباشر. كما أن هذا السقوط سيُعري ضعف النظام أمام الداخل الإيراني، الذي قد يجد في هذا الإخفاق دافعاً لتصعيد الاحتجاجات والمطالبة بتغيير جذري. لكن يبقى السؤال: هل ستقبل إيران بهذا السيناريو دون مقاومة؟ بالتأكيد لا. خامنئي يدرك أن فقدان العراق يعني فقدان كل شيء، ومن المرجح أن تلجأ طهران إلى تصعيد شامل في محاولة لتأجيل ما يبدو حتمياً. هذا التصعيد قد يأخذ أشكالاً مختلفة، من استهداف مباشر للقوات الأمريكية في العراق إلى محاولة زعزعة استقرار الحكومة العراقية عبر أدواتها السياسية والعسكرية. ومع ذلك، يبدو أن واشنطن مستعدة لمواجهة هذه الاستراتيجية الإيرانية التقليدية. إدارة ترامب، على عكس الإدارات السابقة، تُدرك أن تحقيق النصر في العراق ليس فقط مسألة عسكرية، بل هو مسألة إرادة سياسية. لهذا السبب، فإن التحركات الحالية تهدف إلى إضعاف كل أذرع إيران، من الحشد الشعبي إلى الأحزاب السياسية الموالية، وفرض واقع جديد يجعل من الصعب على إيران استعادة نفوذها حتى لو حاولت ذلك. ما نراه اليوم هو معركة حاسمة ستُحدد ليس فقط مستقبل العراق، بل مستقبل النظام الإيراني نفسه. سقوط الحشد الشعبي يعني سقوط الهيمنة الإيرانية على العراق، وقد يكون الخطوة الأولى نحو نهاية النظام في طهران. وفي النهاية، يبدو أن ترامب يُراهن على تحقيق إرث سياسي حاسم في المنطقة، وهو إرث سيُغير موازين القوى لعقود قادمة.