كتب الاستاذ محمد السلوم
في بداية عام 2012 ومن غرفة طينية في قلب صحراء حقيقية، كنت لسا بخدمة الجـيش الإلزامية، تغطية الموبايل بتجي ساعة وبتفصل أسبوع، ومعي موبايل سوني وعم أستخدم برنامج اسمه نيمبوز للمحادثة، ومن راديو عتيق بحاول بأنتيل وشرطان أني جيب بي بي سي أو الأردن ولبنان لأعرف شو عم يصير بالبلد.
بهديك الفترة كتبت هي القصة، قصة “حكاية إيميسا والقائد سوبوتاي” وبعتتها لصديقي مصطفى علوش، مقطعة من خلال الموبايل وما عاد أذكر قديش أخدت وقت لوصلة كاملة، هو جمعها ونشرها على حسابه، وتمت مشاركتها وإعادة نشرها بشكل كبير.
هي القصة وحدة من أقرب النصوص لقلبي، يمكن بسبب ظروف كتابتها، ووضعي حينها.
…………………………………………..
حكاية إيميسا والقائد سوبوتاي
محمد السلوم
طُلب إليّ أن أجمعهم في القاعة لمدة ساعة، وكانت لي حرية الاختيار في ما سأحدثهم به. ولأني كنت أريد أن أستفيد منهم وأن أسلّيهم في آن واحد؛ طلبت منهم أن يقصوا علينا بعض الحكايات التي ترويها الجدّات في قراهم..
حدثني بعضهم بحكايات عادية ومعروفة، إلا أن حكاية مصطفى كانت غريبة حقاً، لم أصدّق ما قاله مصطفى ولكنني سأحدثكم به على كل حال.
في عام ١٢٧٢ للميلاد زحف المغـول على بلادنا، وراحوا يجتاحون البلاد كلها، ولم يقف أمام سنابك خيولهم وجبروت جيوشهم أحد. كانت قرية إيميسا -كما هي اليوم- قرية صغيرة ونائية وليست بذات شأن، وقرر القـائد المغـولي العظيم سوبوتاي أن يجعلها على طريق فرقته العظيمة المكونة من ألف جندي شجاع.
في صباح أحد الأيام وصل سوبوتاي بجنـوده إلى القرية وحاصرها، حجب الغبار المنبعث من حوافر خيله شمس الصباح التي اعتادت عليها إيميسا، ولم يسمع أحد أصوات العصافير أو صياح الديكة، حتى أن نهيق بغل أم حسن لم يسمعه أحد في ذلك الصباح أيضاً.
أعطى سوبوتاي أوامره بقطع الكهرباء عن القرية؛ فذلك كفيل بإخضاع أهلها كما أشار أرغاي المستشار.
انزعج أهالي إيميسا جداً لهذا التصرف غير المهذّب، ومع حلول المساء عادوا إلى أقبيتهم وأخرجوا قناديل الزيت التي كانوا قد نسوها منذ أمد بعيد.
سهروا على ضوء القناديل واكتشفوا أن التلفاز والأقمار الاصطناعية والكومبيوترات والإنترنت جعلتهم جاهلين تماماً بما يدور حولهم.
اكتشف أبو محمود أن ابنته آية مقصّرة جداً في دراستها، واكتشفت أم سمير أن سميراً أصبح شاباً ولابدّ من البحث له عن زوجة. أما وسام الذي كان يقضي جلّ وقته أمام الإنترنت وغرف الدردشة فقد اكتشف أن جارته خولة قد أصبحت شابة جميلة فهام بها عشقاً وكتب فيها قصائد ساحرة. وهكذا فعل أصحاب القرية كلهم واقتنعوا أن المرء يستطيع أن يعيش بدون كهرباء.
انزعج سوبوتاي ووبّخ أرغاي الذي أشار عليه بذلك، ولكن أرغاي كان داهية لا تعوزه الفطنة فأشار على سوبوتاي بقطع الاتصالات في القرية.
في البدء اضطرب سكان إيميسا وما عادوا يعرفون أخبار بعضهم. وعندما لم يعد أبو فجر قادراً على الاتصال بأمه مريم كل يوم كما كان يفعل؛ ذهب لزيارتها. سعدت مريم جداً بذلك فابنها لم يزرها منذ وقت طويل.
وبعد أيام قليلة كانت إيميسا بكاملها سعيدة؛ إذ بات الجميع يزورون بعضهم وكانت السهرات تستمر حول القناديل حتى أوقات متأخرة، حتى أن بعضهم روى أنهم سهروا ذات مرة وهم يغنون ويرقصون حتى صاح ديك أم سعيد الأعرج مؤذناً ببزوغ الفجر. واقتنع الجميع أن المرء يمكن له أن يعيش بدون اتصالات.
عندما وصلت الأخبار إلى سوبوتاي أرغى وأزبد وهدد أرغاي بقـطع رأسـه إن هو فتح فمه مرة ثانية، فليس سوبوتاي من يعود إلى تشيفينج ذليلاً منهزماً أمام إيميسا التافـهة هذه. وأعطى أوامره بإحـراق فرن القرية.
ارتعد أهالي إيميسا من الخوف وخشوا على أطفالهم التضوّر جوعاً، ولكن الشابة كلمات مسبّعة الكارات طمأنتهم.
نفضت كلمات الغبار عن تنّور جدتها العتيق، وبدأت النسوة بعجن الطحين والرجال بإحضار الحطب وسرعان ما بدأت كلمات تخرج من تنور جدتها خبزاً لذيذاً ذا رائحة شهية داعبت أنف سوبوتاي الذي تمنى في قرارة نفسه أن يتذوقه، ولكنه لم يجرؤ على البوح بذلك أمام جنوده.
سُعِد أهالي إيميسا وعلت وجوه أطفالها الضحكات وهم يتخطفون الأرغفة الساخنة، واقتنع الجميع أن الفرن لم يكن ضرورياً لاستمرار الحياة في القرية كما كانوا يظنون سابقاً.
ثار جنون سوبوتاي وأمر رجاله بنصب المـدافع والبدء بقـصف القرية. اختبأ أهالي إيميسا جيداً، وبعد يوم كامل من القـصف وتهدّم بيوت كثيرة؛ بدأ أصحاب البيوت السليمة باستضافة من تهـدّم بيته ونُصِبت في ساحة القرية خيام عديدة لأولئك الذين لم يجدوا بيتاً يأوون إليه. وسرعان ما اكتشف أهالي إيميسا أن المرء يمكن له أن يعيش بدون بيت.
في الصباح كان سوبوتاي قد بلغ آخر درجات الجنون، فأمر رجاله بجمع أهالي إيميسا كلهم واختار بنفسه عشرين واحداً منهم وضعهم قبالة جدار وأمر بإطـلاق النـار عليهم.
بعد ثوان قليلة من الضوضاء كان العشرون المختارون جـثـثاً هامـدة، علت وجه سوبوتاي ابتسامة النصر والشماتة ولكن الأمر الذي أصابه بالفجيعة هو أن أهالي إيميسا لم ينزعجوا من ذلك مطلقاً، بل إن ضحكات أطفالهم سرعان ما عادت بعد انتهاء الضوضاء.
اقترب الناس وحملوا جثـث أبنائهم وتفرقوا وهم يغنون ويرقصون. لم يدرك سوبوتاي حينها أن إيميسا لم تعرف المـوت سابقاً بل لم يكن فيها مقـبـرة أصلاً.
في المساء أرسل قادة سوبوتاي في طلب العراف أركشيان سراً ليشير عليهم لعله يخرجهم من هذه الورطة.
كان أركشيان حكيماً خبر صروف الدهر وتجارب الحياة لذلك لم يبخل بالنصيحة: لقد جنّ سوبوتاي وإذا استمر على هذه الحال فسرعان ما سيقضي على الجـيش كله، لذلك لابدّ من قـتلـه والعودة إلى تشيفينج قبل أن تحل عليكم لعنة هذه القرية، هذا ما قاله أركشيان فصرخ القـادة بغضب: وعـار الهزيمة؟
فأجاب أركشيان: ارحلوا في جنح الظلام، وأشيعوا بين الناس أن إيميسا مصابة بالجـنون المعدي وحرصاً على سلامة الجند رحلتم عنها.
في اليوم التالي أشرقت شمس الصباح التي اعتادت عليها إيميسا واستيقظ الناس على أصوات العصافير وصياح الديكة، حتى أن صوت نهيق بغل أم حسن كان نشيطاً وسعيداً على غير العادة.
ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا ما تزال عجائز تشيفينج تتحدث عن إيميسا القرية المجنونة، التي أهلـكت قائدهم العظيم وفرّ جنودهم هرباً من جنونها، وعجائز إيميسا تتحدث عن قائد أحـمق حاول أن يخضع القرية بغباء وبأدوات وأساليب مضحكة.
…………..
اللوحة عبر الذكاء الاصطناعي