السبت , أبريل 19 2025
الرئيسية / كلام سوريين / سوسيولوجيا الكباب الديري

سوسيولوجيا الكباب الديري

سوسيولوجيا الكباب الديري

معاذ طلب

الصورة للمصور جمعة سليمان

 

في قلب المشهد الديري اليومي، وبين طيات روتين الحياة ونبض الشارع، يحتل محل “الكببجي” موقعًا لا يقل أهمية عن المقهى الشعبي أو “القهوة” كما يسميها أهل الدير. هو ليس مجرد مطعم صغير تنبعث منه روائح الفحم واللحم المفروم “على الصيخ”، بل هو فضاء اجتماعي، ملتقى لأحاديث السياسة والذكريات والطرافة، وشاهد حي على نبض المدينة وهموم أهلها. إنه سِمة ديرية أصيلة، وعنصر لا يغيب عن البانوراما الاجتماعية للمنطقة.

 

تمامًا كما تتوزع “القهاوي” بحسب المزاج والانتماء والألفة، يتوزع محبو الكباب الديري بين مدارس متعددة، فلكل “كببجي” زبائنه، ولكل زبون قناعته التي لا تهتز. يدور النقاش بين الأصدقاء والغرباء حول من هو “الأطعم”، وتعلو الأصوات في الدفاع عن هذا أو ذاك، حتى تكاد تشعر أن المسألة وجودية. لا أحد يتزحزح عن رأيه، فالكباب هنا ليس مجرد طعام، بل هو رمز، جزء لا يتجزأ من الرمزية الثقافية الديرية، تمامًا كما “البامية” التي تحضر في الوجدان قبل المائدة.

 

وهنا تبدأ المنافسة الأوسع. أبناء الميادين والبوكمال والعشارة لا يرضون بأن يحتكر أهل المدينة الكباب وحدهم. كل طرف يعتقد أن نكهة الكباب في منطقته أصفى وألذ وأصدق. وتبدأ المفاضلات الحماسية التي تمتد من مرعى الغنم إلى نكهة اللحم المشوي على ضفاف الفرات، ومن شكل “الصيخ” إلى خبرة الكببجي في الفرم “الثرم على الصيخ”، ففي الدير يُمنع فرم اللحم في آلة الفرم، ويُعتبر ذلك خيانة للطعم والأصل.

تعتمد طريقة تحضير الكباب الديري على تجارب متنوعة لخبراء “الكببجية”. فقد ساهمت أسماء مثل علاوي ورشود السالم، حامد القصاب، الأخوة شريف وبشور, رموض العفدل ,أبناء حبيش الأسعد وجهاد العواد، في نقل الوصفات التقليدية وتحسينها مع مرور الوقت.

في المحافظات الأخرى، لا يتناول ابن دير الزور الكباب إلا إذا كان ‘الكببجي’ من أبناء دير الزور، ما يعكس أهمية الخبرة والتراث في تحضير هذا الطبق. وهذا ما يفسر شهرة مطعم سيف الصباغ سابقًا في دمشق، حيث عُرف بتقديم الكباب الديري على أصوله، وكان يُعدّ ملتقى أساسيًا لأبناء دير الزور هناك. 

بعد اندلاع الثورة وتهجير السوريين، حمل الديريون كبابهم معهم إلى مناطق نزوحهم ولجوئهم، ليس كوصفة طعام فحسب، بل كتقليد أصيل، فنقلوا معهم النكهة والهوية إلى أماكنهم الجديدة. وفي أورفا التركية، حيث نشأ مجتمع ديري موازٍ ضمن النسيج الاجتماعي للمدينة، برز عدد من خبراء “الكببجية” مثل أبناء رموض العفدل، وأصحاب مطعم الجندول، وزياد السومة، وغيرهم، مما ساهم في الحفاظ على وصفات الكباب الديري وتطويرها، وإعادة إنتاجها في سياقات جديدة، دون أن تفقد طابعها الأصيل.

سوسيولوجيا الكباب الديري تكشف الكثير عن علاقة الناس بالطعام، بالهوية، بالمدينة، وبالحنين. هو طقس يومي وموروث، تفاعل اجتماعي، واستمرار لخطاب المدينة الذي لا يُقال في المؤتمرات بل على الطاولات الصغيرة، بجانب إبريق “الشنينة” البارد، ورغيف الخبز الحار.

في الدير، لا تأكل الكباب فقط… بل تعيشه كطقس اجتماعي.

شاهد أيضاً

أهمية و تحديات الإعلام الرقمي

أهمية و تحديات الإعلام الرقمي خليل الأسود لم يشهد العالم تحولاً سريعاً في حقل من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 + 1 =