في منتصف شهر ديسمبر الماضي، لم يأخذ الكثيرون -وأنا منهم- على محمل الجد ما أعلنه ضابط الاستخبارات السابق سكوت ريتر، أن الولايات المتحدة ستعلن مطلع العام الحرب على الحوثيين، حيث كان ذلك سيبدو تصرفا كارثيا يساعد على زيادة اشتعال النيران في المنطقة.
واليوم يبدو أن إدارة بايدن في حيرة من أمرها بسبب الخلافات المتكررة مع العديد من الفرقاء ومع حكومة نتنياهو، حيث غياب التصور السياسي الواضح من بايدن وفريقه لكيفية إنهاء الوضع المأساوي في غزة بعد هذه الحرب التي باتت تلهب الشرق الأوسط، وتفتح عليه فصولا متجددة من صراعات تمتد هنا وهناك، وباتت المنطقة تشكل صداعا لحظيا لفريق بايدن ووزارة خارجيته، وباتت أيضا مواجهة أحداث المنطقة تسبب لها أكبر الارتباك بعدما خلف الموقف الأميركي عواقب حادة على حقوق الإنسان حسب “النظرة الأميركية” التي تعلنها للعالم، إضافة إلى ذلك الأخطبوط من المقاومات المرتبطة بإيران التي أعلنت الحرب على القواعد الأميركية في المنطقة.
بداية فقد كان انطلاق “طوفان الأقصى” بمثابة الصفعة للولايات المتحدة واستخباراتها الممتدة شرقا وغربا، فلا هي ولا حليفتها إسرائيل شعرتا بأي إشارة تدل على إرهاصات ذلك الحدث، فكان تخبطها واضحا منذ اللحظة الأولى عبر الدعم المطلق لإسرائيل للقضاء على المدنيين الفلسطينيين ورفضها لقرارات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، واليوم يزداد التخبط الأميركي بسبب تكسر الحلم بإمكانية قيام “الشرق الأوسط الجديد”، حيث باتت الاتفاقيات التي تمت مع إسرائيل بمثابة الحبر على الورق.
واليوم أيضا بات التخبط في إدراج الحوثيين ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية مشكلة لواشنطن، حيث إن بايدن كان قد ألغى هذا القرار مسبقا بعد أن وقعه سلفه ترامب، وهو اليوم -أي بايدن- يعود لنفس القرار من ناحية اتهام الحوثي بأنه منظمة إرهابية سياسية وسلوكا، ولا يخفى ما في ذلك من التخبط، فهذا التصنيف المحدث لا يساعد على الاستقرار في المنطقة ولا على حماية المصالح الأميركية والولايات المتحدة تتحمل ذلك النوع من “الرخاوة” في التعامل مع تلك الجماعة، وهي التي مكنتها من التمدد والإجرام داخل اليمن، ومن الاعتداء والقرصنة في الممرات البحرية.
الموقف الأميركي من الحوثيين خلال هذه الساعات ينطلق من أن هذه الجماعة أعلنت فرض حظر على مرور السفن المتجهة إلى إسرائيل في مضيق باب المندب تضامنا مع قطاع غزة، وهذا أمر يضر بالتأكيد بالاقتصاد العالمي، حيث يعلم الجميع الحاجة القصوى لهذا الممر لمرور البضائع إلى كل قارات العالم، لكن التخبط الأميركي هنا انطلق أيضا من عدم القدرة على مواجهة عدم رغبة بعض دول المنطقة في الانضمام لهذا التحالف ضد الحوثيين والتزام بعض الدول الصمت، وفي رأيي فإن الدول العربية التي لها تأثير في هذا التحالف هي مصر، فقد أضر بها كثيرا ما قام به الحوثيون من عرقلة لمرور السفن إلى قناة السويس، لكن وفي كل الأحوال لا شك أن هذا التحالف ضد الحوثيين هو طريق إلى حرب إقليمية واسعة النطاق بدأت تلوح في الأفق، والحوثيون يعلنون ليل نهار أنهم مستعدون للدفاع عن أنفسهم ومواصلة عملياتهم العسكرية دعما لغزة، وستكون كل المصالح الأميركية والبريطانية في المنطقة أهدافا مشروعة لهم خصوصا بعد القصف غير المسبوق تجاههم منذ يومين.
التخبط الأميركي ظهر أيضا بوضوح في عدم القدرة على الإعلان عن “النية المستقبلية” للصراع مع إيران، فالقادة الأميركيون يعلنون أنهم لا يسعون إلى التصعيد أكثر مما يحدث الآن في اليمن، وواشنطن تعلن أن هدفها هو تأمين الطريق البحري في البحر الأحمر وباب المندب، لكن الهجمات الأميركية البريطانية ستؤثر أيضا على ارتفاع الأسعار واقتصاديات جميع الدول التي تمر بضائعها عبر باب المندب ولو لأشهر محددة.
التخبط الأميركي ظهر أيضا داخليا، فقد أضر الموقف الرسمي الأميركي منذ انطلاق أحداث 7 أكتوبر بشعور الأميركيين تجاه بلادهم التي ترفع شعار “حقوق الإنسان”، وبات الرأي العام مضطرا للتعبير في مظاهرات عارمة عن موقفه من هذه الحرب، ولم تجن الولايات المتحدة أي مكاسب من أحداث طوفان الأقصى، سوى زيادة الإنتاج في مصانع السلاح.
في خلاصة يمكنني القول إن الموقف الأميركي فيما خص الممرات المائية انطلق أيضا مما يمكن أن أسميه “عسكرة البحر الأحمر”، فوجود تحالف يعنى بحماية ممراته المائية سيزيد من محاولات دول كبرى إنشاء قواعد لها على هذا البحر، وأقصد تحديدا الصين وروسيا، وأن الموقف الأميركي اليوم في الشرق الأوسط بات يفتقد إلى نظرة بعيدة المدى، بل صاحبته وللأسف تكتيكات يغلب عليها التقدير المضطرب، فتارة يذكر وزير خارجيتها بحل الدولتين وطورا يرفض مندوبه في مجلس الأمن وقف الحرب، وكذلك أصبح قطاع غزة بالنسبة له ضبابي الرؤية، فمرة يدعو للانسحاب منه ومرة أخرى يلمح إلى جدوى البقاء فيه. هذا هو حال الوزير بلينكن مع أحداث غزة، أما بلاده فما من شك أن “الأهداف الاستراتيجية” لها في الشرق الأوسط لم تعد الرؤية لها واضحة كالسابق، بل أكاد أجزم أن فريق بايدن ليس متفقا على استراتيجية واحدة تستطيع أن تنهي “أقل الممكن” من مشاكل الشرق الأوسط قبل التفرغ خلال الأشهر المقبلة للانتخابات الرئاسية.
اليوم تريد الولايات المتحدة من هذا التحالف البحري تشتيت الانتباه عن غزة، وربما تخفيف الضغط على إسرائيل، وربما حماية التجارة العالمية، وربما لها أهداف أخرى، لكن في كل الأحوال يبقى التخبط واضحا، فكثير من دول العالم بات يعتبر واشنطن شريكة في الفظائع التي حلت بغزة، والتحالف الدولي المسمى “حارس الازدهار” يبدو شكليا ولن يزيد المنطقة إلا توترا وإطالة لأمد الحروب في الشرق الأوسط، فهناك دول مؤثرة في هذا الممر المائي ولها وزنها في المنطقة رفضت المشاركة، والتنظيم الحوثي ميليشيا وليس دولة مما يصعب المناوشات معه، حتى لو استطاعت أميركا أن تجعل من “حارس الازدهار” حاميا لمصالحها في المنطقة فإن موقفها من الحرب في غزة قد جعل العرب يعيدون مراجعة مصالحهم معها، حيث كان تخبطها في عدم تعاملها معهم من منطلق الحليف الاستراتيجي الذي يساعدهم في مواجهة المخاطر، بل كان انسحابها من أفغانستان ثم إطلاقها يد الحوثي في اليمن عبر رفعه من قائمة العقوبات ثم التخاذل في إنهاء الأزمات في سوريا والعراق وليبيا وتغافلها المهين عن البرنامج النووي الإيراني سلسلة من السياسات المتخبطة، وسيبقى هدف وقف التهديدات للملاحة البحرية أمرا عسيرا، فقد جلبت رؤية بايدن للمنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية الكثير من الفوضى التي كان بإمكان واشنطن تلافيها، وباتت وللأسف ولأشهر قادمة فاقدة القدرة على إطفاء حرائق الشرق الأوسط التي تخبطت واشنطن في اتخاذ موقف مناسب منها، منذ انطلاق الحريق الأساسي في 7 أكتوبر.