هدى بلال
مات والدي ….ولم أر جنازته
قالت بصوت منخفض ومتهدج وبعينين يسكن كل وجع الأرض فيهما: لا يعنيني المستقبل في شيء، فأكبر أحلامي هوأن أعود لإدلب لأفتش عن قبر أبي وأزرع قرب قبره شجرة يتفيء في ظلها. لطالما كان أبي يشكو من الحر قائلاً: الله يجيرنا من حر جهنم.
بهذه العبارات ختمت حديثها معي..
بخطى ثقيلة كما لو أنها تجر عربة محملة بالحجارة تمضي في شوارع المدينة الغريبة التي لاتعرف فيها أحد وهي تحمل كيساً ممتلئاً بالمناديل الجاهزة، تبيعها للمارة علّها تساعد والدتها في تأمين قوت يومهم، لم تكن الطفلة السورية وحدها تحمل هذا الوجع فثمة عشرات الأطفال السوريين يجوبون يومياً شوارع المدينة يحملون مناديلهم لبيعها للمارة ، ليتخضب العالم بأسره بعار خذلانهم ، وجع وخذلان لن تمحوه مناديل الدنيا بأسرها ..
يحملون مناديلهم بقهرٍ ترتجف أصابعهم برداً بينما أطفال العالم يحملون حقائبهم المدرسية مسرعين يحلمون بغدٍ جميل فيما حلم هؤلاء هو لُقمة تسد رمقهم قبل أن يستيقضوا مجدداً ليبدأوا رحلة كفاحهم الطويلة..
وعندما يطوي المساء الضوء يعود الأطفال ليكتبوا واجباتهم المدرسية أما أطفالنا يعودون ليدوّنوا صفحة جديدة في دفتر القهر..
تقول “إيمان” ذات العشرة أعوام: عندما فررنا من ويلات الحرب في محافظة دير الزور إلى إدلب هرباً من القصف اليومي بعد أن دُمِّر بيتنا كان والدي مريضاً جداً أودعناه المشفى وافترشنا الطريق بانتظار أن يعود إلينا .. كنا ننام على قارعته أنا وأمي وإخوتي الصغار.. إلى أن صادفنا أحد (المهربين) قال لأمي لم تنامون هنا أجابته بحزن جئنا لعلاج زوجي ولامكان لنا نبيت فيه ولانعرف أحداً…
فعرض على والدتي تهريبنا إلى تركيا وعندما أعلمته والدتي أننا لانملك المال قال سأساعدكم وعندما تمتلكون المال ستدفعون لي؛ ومضت بنا الرحلة إلى تركيا ، في الليل الحالك القاسي عبرنا الحدود واستقر بنا المقام هنا و لانعرف أحداً ولا أحد يعرفنا سوى جيراننا الذين أُمضي الوقتَ بصحبة بناتهم نبيع المناديل الورقية لنشتري قوت يومنا..
وأضافت بحسرة:
بعد شهرين من وصولنا إلى هنا توفي والدي ولم أرَ جنازته وأحلم عندما أكبر أن أفتش عن قبره وأزرع قرب قبره شجرة يتفيّأ بها فهو كان يكره الحر صيفاً..