الشرق نيوز
هيئة التحرير
في ظل تصاعد فكرة الشعبوية والخطاب الموجه في أمريكا وأوربا وصعود القادة الذين يملكون خطاب ذا صبغة شعبوية موجهة لعموم الشعب ومحاولة استغلال تعاطف الشعوب وغضبها من هيمنة النخب الرأسمالية
قراءة في الخطاب الشعبوي للمعارضة السياسية السورية
الثورة و المعارضة و بلاء الشعوبية
إنّ من أكثر ما يهدد أي عمل سياسي هو عدم انضباطه و انحيازه للغة العاطفة و بعده عن التعقل و العقل، و إذا كان السياسي لا يمكن له
المبادرة في مجتمع عزف عن السياسة لعشرات السنين ، حتى إذا ما ثار المجتمع وجد فرصته للعمل فإنّ هذا لا يعني بأي حال أنّ هذه الفرصة ستكون متاحة أبدا لتنشيط العمل السياسي الحرّ، فالثورة بجوهرها عمل و ردّة شعبوية و إذا لم تتم عقلنتها و ترشيدها فإنّها ستصبح كتيار يجرف أمامه كل شي، لا يبقي و لا يذر.
و إذا كان العمل السياسي في الظروف الطبيعية موجّه لشعب في حال استقرار نفسي و عاطفي و يكون في كنف دولة مستقرة مضبوطة بالعقل الكلّي المعّبر عن تجلّي العقل الجمعي وعن مصالح عموم الشعب في الدستور و القانون المستلزم عن قواعده الكلية فإنّ العمل السياسي في سياق ثورة شعبية يحوطه الكثير من الصعوبات، والسياسي في هذا الظرف يواجه شعباً غاضباً منفعلاً يرى في العقلانية ترفاً لا يناسب الحال فيصير السياسي إما أسير الظرف و الحال فيجيء بخطاب يناسب العاطفة و الإنفعال، أو أسير العقلانية التي تحكم العمل السياسي كفعل منظّم يجب أن يؤدي الى نتيجة و هدف إما بتدوير الزاويا أو بالتفاوض أو بالتصريحات العقلانية، التي قد تؤدي بالنهاية لانعزال السياسي و بناء جدران بينه و بين عموم الشعب الثائر .
و أنّه مما كان مشاهداً عياناً في الثورة السورية عدم مقدرة السياسي على العمل بمهنية بعيداً عن الشعبوية وبعيداً عن الخطابات الحماسية مع ما يتطلبه ذلك من الموازنة بين إفهام الشارع و ضوابط العمل السياسي الرشيدة و قد يكون ذلك مبرراً عند البعض بحجة الهروب من النخبوية أو بحجة عدم إغضاب الشارع الثائر، فكان ميل بعض أو معظم الساسة لاعتماد الخطابات الحماسية و ذلك لابقاء جذوة الثورة كما يعتقدون و لكنهم بحقيقة الأمر يتجاهلون إمكانية أن تظهر معضلة أخرى و هي عدم إدراك الخط الفاصل بين التثبيط و التنبيه بين زرع الأمل و بيع الوهم.
و تعرف الشعبوية عادة بأنها “تحريك للمشاعر غير العقلانية لدى الجماهير و توجيهها ضد النخب السائدة أي أن الشعبوية باتت تعني مجموعة الظواهر المبتعدة كلٍّ على طريقتها الخاصة ع الديمقراطية الليبرالية”(صحيفة الجمهورية, عن معاني الشعبوية و استخداماتها, تاريخ النشر 8 من تشرين الثاني 206).
ولكن يبقى السؤال هو هل أتت هذي الخطابات الحماسية بالنتيجة المرجوة أم أنها ساهمت بتخصيب الوهم الذي دفع كثيراً من السوريين بعد مرور ثمان سنوات لمراجعة عدم مهنية للثورة جعلتهم يحمّلون الثورة المسؤولية ، مسؤولية كل ما جرى.
نعم قد تكون الخطابات الشعبوية في بداية أي حراك مفيدة و قد يكون تبرير البعض بأنها تعين على تعبئة الشارع و تجييشه في محله لكن تبقى المشكلة في أن العاطفة في مرحلة من المراحل تميل لسلب الفاعلية من أصحابها و تجعلهم منفعلين غير قادرين على الاستمرار و الدوام ، فسلب الفاعلية يعني سلب العقلانية و التوازن بين المثاليات و ضرورات الواقع بين الممكن و البعيد بين الجيد و الاجود بين السئ و الاسوا بين الارادة و الاستطاعة.
و عدم التفريق بين الإستطاعة و الإرادة و عدم الإهتمام بقضية الرؤية الاستراتيجية و التكتيك و التوافق بينهم هو من أهم نتائج الاستغراق بالخطابات الحماسية و الشعبوية التي حمّلت ثورتنا ما لا تطيق فانكسر ظهرها كنتيجة طبيعية للسنن الكونية التي لا تقبل المعجزات.
و قد تكون الخطابات الشعوبية ما دفع معظم السوريين لاستسهال التخوين واستثقال التخطئة و الإقرار بضرورة المحاسبة على الخطأ و إن كانت عقوبته تساوي عقوبة الخيانة، و قد يكون معظم ما حلّ بالسّوريين هو نتيجة للخطابات الشعبوية التي دفعت لارتكاب أخطاء استراتيجية قاتلة من قبل من تّصدّر القيادة و المحاسبة بحقه فرض.
و لقد دفعت الشعبوية لعزل المهنيين و التقيين والعقلانيين و تصدر من هو مثرثر فصيح بليغ في خطاباته الحماسية و هذا ما أدى لتعطّل العمل السياسي و عدم قدرته على توظيف انفعال الشارع لكسب نقاط و أوراق ضغط سياسية وتجلى ذلك في تقدير موقف سياسي خاطئ في معظم الأحيان و تقدير موقف و تكتيك عسكري خاطئ في معظم الأحيان.
و كما أنّ عدم وعي أهميّة التّوافق بين الإمكانيات العسكرية أو التكتيكات و الرؤية أو الاستراتيجي يكون له تأثير مدمّر على العمل ككلّ، فإنّ عدم النّظر الى الوضع السياسي الدولي واستغلال التناقضات و المصالح المختلفة للدول للحصول على التّغطيّة السياسية أيضا يمنع من ترجمة أي تقدم عسكري الى تقدم و مكاسب سياسيّة.
و بخلاف الشعبويين فعند العقلانيين لا يمكن أن تكون الإمكانيات إمكانيات ثورة أو تّمرد في بلد مهم جيوسياسياً و في ظلّ وضعٍ معقّدٍ دولياً و يتّم وضعها في خدمة استراتيجية عظيمة تنوء بحملها قوى ثورة كتحرير الأرض أو مسكها و إدارتها، و إنّما الأصل هو مواصلة ضرب العدوّ و لو طال ذلك حتّى يتم اجباره على التّنازل. و علما فإنّه يلزم عن تحرير الأرض و مسكها ضرورة تّوفير إمكانيات دولة ليست متوفرة لقوى ثورة و ذلك لإدارة و ضبط المناطق المحررة، و ذلك حتى لا تّخسر الثورة هذي الحواضن الشعبية أو يتمّ تصويرها أنها غير قادة على الادارة، و هذا لم يكن متاحاً أبداً و لا يمكن له أن يكون متاحاً أساساً.
و بناءاً عليه فإنّ المفروض الآن تحييد الجماعات المؤدلجة و خاصة اليسار بشقيه العلماني و الإسلامي و تقديم المهنيين و التكنوقراط لقيادة المعارضة و البحث عن خيارات سياسية و عسكرية غير تقليدية تتناسب و مقتضى الحال و تنطلق من مقدمة أنّ ما يجري في سورية ثورة ، بالإضافة إلى صّراع معقد و لا يمكن الاكتفاء معه بالخطابات الحماسية الشعبوية و يمكن أن يتعقد أكثر، و أنّ التّناقضات فيه كثيرة بين الدول المتّصارعة على و في سورية.