لا منتصر؛ تغير خارطة الشرق الأوسط؛ نزيف القضية؛ انقسام داخلي اسرائيلي.
عام ونصف على 7 أكتوبر..
لا منتصر؛ تغير خارطة الشرق الأوسط؛ نزيف القضية؛ انقسام داخلي اسرائيلي.
أنس المحمد
سنة ونصف مرّت على يوم “الزلزال” الجيوسياسي الأكبر في القرن الحادي والعشرون الذي انقلبت فيه دول الشرق الأوسط وتغيرت محاور وسقط زعماء؛ 7 أكتوبر 2023. في ذلك اليوم الذي كان بداية لزلزال غير مسبوق، نفذت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية هجوماً واسعاً على المستوطنات المحيطة بغزة ما يعرف ب “غلاف غزة” في عملية فاجأت إسرائيل، وأربكت العالم، وأشعلت واحدة من أكبر الصراعات دموية في تاريخ القضية الفلسطينية والمنطقة. لكن ما تلا الزلزال (الطوفان) تجاوز حدود المعركة: انقسام داخلي إسرائيلي غير مسبوق ومخاوف من صراع داخلي أو حرب أهلية، حسابات خاطئة لقيادة حماس ومقتل أهم قادتها (يحيى السنوار؛ اسماعيل هنية؛ محمد الضيف)، مجازر لا توصف في غزة وتصريحات أمريكية علنية بخطة لتهجير سكان غزة، وتداعيات ارتدادية هزّت دول الطوق العربي ودول المنطقة سياسياً وأمنياً.
في هذه السطور، سنحاول تناول تداعيات 7 أكتوبر من خلال عدة محاور أساسية: كتصاعد الانقسام الداخلي في إسرائيل، حسابات حركة حماس قبل وبعد زلزال أكتوبر(الطوفان) ودفع الشعب الفلسطيني خاصة في غزة فاتورة هذا القرار.
أولًا: إسرائيل من الداخل – تفكك مجتمعي وفوران شعبي وتعنت حكومي:
لم تكن إسرائيل مستعدة لصدمة 7 أكتوبر وهي التي لطالما اعتبرت نفسها الحصن الآمن في منطقة الشرق الأوسط الغارقة في الصراعات. لكنها في هذا اليوم قبل سنة ونصف واجهت واحدة من أكبر الصدمات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية في تاريخها.
الهجوم الذي شنّته فصائل “المقاومة الفلسطينية” في غزة قلب الموازين والحسابات.
كانت المفاجأة كبيرة على المستوى السياسي؛ وأكبر على المستوى العسكري والأمني،؛ وكشفت عن انقسام داخلي حاد داخل المؤسسات الإسرائيلية.
ما تلا الهجوم كان بداية لسلسلة من الخلافات والتصدعات بين قادة الجيش الإسرائيلي من جهة، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من جهة أخرى.
الجيش الإسرائيلي الذي اعتاد على الهيمنة الأمنية بدأ يواجه صعوبات في تبرير فشله الاستخباراتي في مواجهة الهجوم، فيما بدأ نتنياهو في الدفاع عن سياسته وقراراته، الأمر الذي أثار العديد من الانتقادات وصلت إلى استدعاء نتنياهو إلى القضاء الاسرائيلي بعد رفع العديد من الدعاوي القضائية ضده.
كذلك الاحتجاجات الشعبية المتزايدة والتي بدأت مبكراً.. احتجاجاً على الفشل الشامل في 7 أكتوبر ثم ازدادت وتيرة الاحتجاجات ضد سياسات نتنياهو وحكومته التي تواصل الحرب دون الاهتمام بعقد صفقة تُخرج الأسرى لدى الجانب الآخر وبسبب الفشل العسكري الواضح والتكاليف البشرية الهائلة للحرب.
تراجع الدعم الشعبي لحكومة نتنياهو مع تزايد القتلى من الجنود الإسرائيليين واتهام الجيش الاسرائيلي بقتل عدد من الأسرى الاسرائيليين خلال غاراته ضد حماس وعليه بدأ العديد من الإسرائيليين في التعبير عن استيائهم من إدارة نتنياهو للحرب بل وطالبوا باستقالة الحكومة أو إجراء انتخابات جديدة.
جسدت هذه التحولات نقطة فارقة في تاريخ إسرائيل، إذ أصبحت تشهد لأول مرة تصدّعاً حقيقياً في بنيتها الداخلية، وهو ما يعكس عمق الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي بين تيارات اليمين واليسار وبين القادة العسكريين والسياسيين والمجتمع المدني.
ثانياً: حماس – بين منطق المقاومة وارتهان القرار الداخلي وفقدان القاعدة الشعبية:
من ناحية أخرى كانت قيادة حماس قد قررت شن الهجوم في 7 أكتوبر (دون أن تراعي التقدير الصحيح للظروف). على الرغم من أن حماس قد حاولت تحميل العملية بعداً استراتيجياً بأنها عملية ضمن غرفة عمليات محور المقاومة فيما بات يعرف ب “وحدة الساحات” للضغط على إسرائيل فإن التحليل الواقعي يكشف عن قرار غير مدروس سياسياً وكبير عسكرياً سرعان ما تبرأت منه إيران وورطت به حماس وحزب الله مع مشاركة رمزية لجماعة الحوثي اليمنية.
كانت حماس قد اتخذت خلال العقدين الأخيرين من تحالفها مع إيران جزءاً أساسياً من سياساتها الاستراتيجية. هذا الارتباط لم يكن محض صدفة، بل تزامن مع توجهات إيران في توسيع نفوذها في المنطقة. وبالتالي، فإن قرار حماس بتوجيه ضربة كبيرة لإسرائيل كان جزءاً من محاولة لإظهار القوة السياسية ليس فقط تجاه الاحتلال الإسرائيلي، بل في مواجهة الدول الإقليمية الكبرى التي تواجه سياسياً محور المقاومة ولا سيما إيران.
لم تُقدّر قيادة حماس حجم رد الفعل الإسرائيلي المحتمل فكان “الطوفان” معركة غير متكافئة.
إسرائيل لم تكن مستعدة فقط للقتال بل كانت مستعدة لشن حرب استنزاف على غزة واستغلال الفرصة لطي صفحة حماس وغزة إلى الأبد.
الهجوم على غزة لا يمثل فقط ردة فعل إسرائيلية بل تحول إلى حرب إبادة ضد المدنيين وفرصة لتغيير شامل في الضفة الغربية وتكثيف الاستيطان واستغلال الدعم الدولي بعد أحداث 7 اكتوبر.
حماس لم تبني استراتيجية طويلة بعد الهجوم، إذ كانت تفتقر إلى خطة استراتيجية طويلة المدى لاستثمار تلك المواجهة فراهنت على الرأي العام العربي والإسلامي وتحول المواجهة إلى حرب اقليمية بين إيران واسرائيل وهذا لم يحدث حتى كتابة هذه السطور
لكن في النهاية كانت غزة هي الضحية الأولى في هذه المعركة غير المتكافئة إذ دفع الشعب الغزاوي خاصةً والشعب الفلسطيني عامةً ثمناً باهظاً لهذا “الزلزال” .
ثالثاً: غزة تدفع الثمن… مرة أخرى
غزة التي كانت دائماً في قلب الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، شهدت مأساة جديدة بعد الهجوم الذي شنّته حماس حيث كانت العواقب أسوأ مما كان متوقعاً؛ حرب لم تقتصر فقط على الدمار المادي، بل شملت خسائر بشرية كبرى:
1.أكثر من 50 ألف شهيد معظمهم من النساء والأطفال.
2.آلاف الجرحى البعض منهم بحالات خطرة والعديد منهم لا زالوا يعانون من آثار الحرب.
3.نزوح مئات الآلاف من سكان غزة الذين هجروا من منازلهم بسبب القصف العنيف وتَكَرر النزوح مرات ومرات حسب المناطق التي تحددها الخرائط الاسرائيلية.
4.دمار شبه كامل للبنية التحتية ما جعل حياة الناس في غزة أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
غزة التي كانت ولا تزال في مرمى نيران إسرائيل، عاشت واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث.
كذلك تغير الواقع الفلسطيني جذريًا إذ أصبحت غزة والضفة ساحة لصراع معقد يتداخل فيه الداخل والخارج وسياسات التهجير المعلنة.
رابعاً: الزلزال في “دول الطوق”
ما بعد 7 أكتوبر لم يقتصر تداعياته على فلسطين واسرائيل وحسب، بل امتد ليؤثر بشكل كبير على دول الطوق العربي؛ لبنان وسوريا والأردن ومصر التي كانت تشهد تأثيرات مباشرة لهذه الأحداث.
وقسمت هذه التأثيرات إلى قسمين عسكرية ضد لبنان وسوريا وسياسية ضد مصر والأردن.
لبنان
-
لبنان: كان لبنان في قلب المعركة مباشرة بعد 7 أكتوبر، خاصة مع دخول حزب الله المعركة في ما يعرف ب “جبهة الإسناد” على جبهة الجنوب؛ التحركات العسكرية التي قام بها الحزب كانت تهدف إلى إضعاف القوات الإسرائيلية على الحدود، وهو ما دفع إسرائيل إلى القيام بهجمات جوية وأمنية مكثفة على مواقع للحزب وقياداته في جنوب لبنان أدت إلى مقتل زعيم الحزب حسن نصرالله وخَلَفَهُ هاشم صفي الدين وتدمير استخبارات الحزب والكثير من قدراته العسكرية
من جانب آخر كان لبنان نفسه مهدداً بأن يصبح ساحة مفتوحة لصراع شامل خصوصاً مع وجود ضغوط إقليمية ومحاولة أطراف إقليمية مختلفة لإضفاء شرعية لوجودها في الأراضي اللبنانية.
2.سوريا: تأثرت سوريا بشكل كبير بعد أحداث 7 أكتوبر على عدة أصعدة ففي عهد المخلوع بشار الأسد كانت سياسة إسرائيل في سوريا ضرب معاقل إيران وخطوط إمداد حزب الله بالأسلحة والمعدات؛ وكان الأسد يتعامل مع القضايا الإقليمية بعد “الطوفان” بحذر شديد خوفًا من التفرد به وهذا ما حدث من فصائل الثورة السورية التي استغلت انشغال روسيا وإيران وتغيّر موازين القوى في المنطقة لتسقط الأسد خلال أيام.
اليوم ومع استلام أحمد الشرع المرحلة الانتقالية لن تكون سوريا في مأمن من التهديدات الإسرائيلية خصوصاً بعد تنامي النفوذ التركي في البلاد.
إسرائيل اليوم تخشى من وجود نظام متدين (إسلام سياسي) في سوريا خصوصاً مع اقتراب تركيا من سوريا في إطار تقارب سياسي وأمني قد يغير معادلة القوة في المنطقة.
وفي ضوء التصريحات حول إنشاء قواعد عسكرية تركية جديدة في سوريا، أصبح لدى إسرائيل مخاوف حقيقية من تشكيل محور جديد يضم تركيا وسوريا على حدودها وهو ما دفعها إلى توسيع نطاق هجماتها الجوية في سوريا.
أحدث هذه الهجمات كان استهداف مطار حماة العسكري وهو ما أدى لتدميره بشكل كامل. كما توغلت إسرائيل في مدينة نوى في درعا حيث جرت اشتباكات مع شباب المدينة، وأسفرت الاشتباكات عن استشهاد 10 سوريين.
هذه الهجمات كانت جزءاً من محاولة إسرائيل لإضعاف الوجود الحكم الجديد في سوريا ووقف تعزيز النفوذ التركي (الإسلامي) الذي تعتبره تهديداً وجودياً لها.
3. مصر: كان عليها الثقل الأكبر سياسياً لحدودها مع غزة وكونها جسر للتواصل بين العرب واسرائيل وقد تعرضت لضغوط خطة ترامب لتهجير سكان غزة وضغوط شعبية داخلية لفتح المعابر مع غزة وضغوط المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية التي ما زالت تتمدد وتتقلص وفق معطيات الآلة العسكرية في الحرب.
4. الأردن: كذلك تعرضت الأردن لضغوط شعبية داخلية واضطرابات أمنية نتيجة محاولات التسلل المتكررة من مناصري غزة للداخل الإسرائيلي.
كذلك تقاسمت مع مصر مصير خطة ترامب لتهجير سكان غزة وقد وافقت الأردن على استقبال 20 ألف طفل غزاوي جريح استجابة لضغوط ترامب المتزايدة.
والأهم هو العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية و تزايد الاستيطان الاسرائيلي فيها وهو ما يشكل تهديداً أمنياً كبيراً على الأردن وسط مخاوف من تهجير جماعي لأهل الضفة إلى الأردن.
بعد سنة ونصف على “زلزال” 7 اكتوبر وما أطلق عليه “طوفان الأقصى” فإن المنطقة لن تعود إلى ما قبل 7 اكتوبر فإسرائيل تغرق في مشاكل داخلية وخطر خارجي تراه يهدد وجودها كما لايزال أكثر من ٥٠ أسير إسرائيلي لدى حماس، وحماس تفقد السيطرة كل يوم على غزة وتفقد الأمل في بقاءها في السلطة داخل غزة.
كما تواجه دول كسوريا ولبنان عقبات جديدة تتمثل باحتلال أجزاء أخرى من أراضيها ودول كالأردن ومصر مخاطر تهجير فلسطيني جماعي إليهم كذلك تلفظ جماعة الحوثي التي أعيدت إلى قوائم الإرهاب أنفاسها الأخيرة تحت وطأة ضربات أمريكية مركزة ويضيق الخناق على إيران والميلشيات العراقية تحت تهديدات بحربٍ أمريكية باتت على الأبواب.
صعدت القضية الفلسطينية إلى سلم أولوية الرأي العام بعد أحداث 7 اكتوبر وشهدت وتشهد حتى كتابة هذه السطور أمريكا وبريطانيا وأوروبا والعالمين العربي والإسلامي مظاهرات صاخبة واحتجاجات عارمة تملأ الساحات والشوارع والجامعات لكن هذا التعاطف الشعبي العالمي لم ينجح بتنفيذ قرارات منظمة العدل الدولية باعتقال نتنياهو ودفع بالمجر إلى إلغاء عضويتها بتلك المنظمة لاستقبال نتنياهو الشخص الأكثر دموية ووحشية وتعطشاً للدماء والعنف شهدته حقبة “الزلزال” أو كما يقولون “الطوفان”.