العادات والتقاليد العربية – هجرة من نوع آخر
خليل الأسود
جرت العادة أن تتمثل الهجرة الفردية أو الجماعية بالأشخاص وترتبط بهم ارتباطاً وثيقاً ، ولأن الهجرة في العالم الحديث تتسم بالهجرة الفردية ” المتفرقة ” فإن سمتها التي تلاحقها في بلد الاستقرار الجديد أنك تجد مجموعة من الأشخاص ، متنوعين في الأصل من حيث كل شيء ، بدءاً من بلد القدوم الكبير وصولاً إلى العادات التي يحملها هؤلاء معهم إلى بلادهم الجديدة .
ولأن التنوع هو سمة المهاجرين فإنه من النادر أن تجد مجتمعاً متجانساً متكاملاً في البلد الجديد يشكل المهاجرون محوره الأساس ، ذلك أننا لو افترضنا أن أعيننا الآن متوجهة إلى بلد يحتضن اللاجئين كألمانيا أو السويد على سبيل المثال ، فإنك تجد اللاجئين الذين قدموا إلى هذا البلد قبل عشرات السنوات كانوا من بلاد متفرقة ومختلفة في اللغة والدين والعادات .
إلا أننا اليوم لو حاولنا أن نعيد النظر في هذه النقطة بالذات سنجد أن المهاجرين الجدد يشكلون تجمعات تكاد ترتقي إلى أن تكون مجتمعات متكاملة ضمن المجتمع الأساس .
يقودني هذا الافتراض – وأنا لاجئ من زمرة اللاجئين السوريين – الذين قذفت بهم الثورات والحروب إلى بلاد جديدة مختلفة كلياً في اللغة والعادات والتقاليد . إلى أن أسلط ضوء البحث على هجرة من نوع جديد رافقت هجرتنا من سوريا ، وامتدت مع السوريين إلى شتى بقاع الأرض ومن ضمنها أوروبا وأمريكا وتركيا .
وقد ساعدت الهجرة الجماعية التي فقد أصحابها الهوية الثبوتية (البطاقة المدنية) إلى نقل هوية أخرى تكاد تكون أشمل وأهم من تلك الورقة الثبوتية التي يحملها أحدنا في جيبه ليثبت لشرطي هنا أو شرطي هناك جنسيته .
الهوية المهاجرة :
يعيش في تركيا اليوم أكثر من 4 مليون لاجئ سوري ، يتمركز أكثر من 90 بالمئة منهم في ست أو سبع محافظات رئيسية كاسطنبول وإزمير وأنقرة وغازي عنتاب وأنطاكية وأضنة وشانلي أورفا .
وليس من قبيل المصادفة أن تجد أن غالبية السوريين الذين هاجروا من سوريا قد توجهوا إلى مدن تكاد تشبههم أو تشبه المحافظات التي كانوا يسكنونها في سوريا قبل الهجرة ، فأنت لا تحتاج إلى كثير من التبصر لتجد أن ابن حلب مثلاً قد اختار مدينة كغازي عنتاب للاستقرار فيها ، وأن ابن محافظات الشرق السوري ” دير الزور والرقة والحسكة ” في الغالب قد اختاروا مدينة كشانلي أورفا للعيش فيها وهكذا .
ما ليس بالمصادفة في الأمر هو أن هؤلاء حين أتوا إلى تركيا أتوا على شكل جماعات تجمعت عند الحدود ثم دخلوا باتفاق مسبق على مكان الإقامة الذي حددوه مسبقاً بناء على ما لديهم من معلومات طفيفة عن كل محافظة في تركيا .
وهم حين كانوا في طور جمع المعلومات ممن سبقهم من الأهل والأقارب كانوا يسألون عن كل شيء ، ابتداء من شكل البيوت والحواري إلى شكل التجمعات السكنية إلى العرقيات التي تسكن في هذه المحافظة أو تلك .
وهم هنا لا يبحثون عن شيء لا يهمهم ، بل هم يبحثون – برأيهم – عن شكل الحياة الجديدة ، ولأن الجار قبل الدار ، فهم يبحثون عن شكل الحياة من خلال شكل ولون وعرق وعادات الجار ، والذي هو صاحب البلد الأصلي .
فلا يستقيم في عقل “فلاح” قادم من الشرق أو الشمال أن يبحث عن مدينة كاسطنبول في ازدحامها وخطوط مواصلاتها وأشكال التجارة والصناعة فيها ، وإنما هو يبحث عن مكان يستطيع العيش فيه بما يملك من مقومات الحياة البسيطة ومن خبراتها .
وكذلك الأمر لابن مدينة التجارة الأكبر “حلب ” فهو تربى منذ الصغر على التجارة فلن يذهب في البحث كثيراً حتى يجد أن مدينة كغازي عنتاب أو إسطنبول هي الأنسب له لما تحتويه من المصانع والمحال التجارية وشركات الاستيراد والتصدير الكثيرة .
ترتيب صورة الحياة الجديدة
لنتفق مبدئياً على أن دولة كتركيا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة لن تجد فيها ما يلفت النظر من العادات والتقاليد إن بقيت الهجرة فيها على شكل أفراد متفرقين ، ولكن ماذا لو وجدت محافظة تركية عدد سكانها لا يتجاوز المليون نسمة كشانلي أورفا قد أصبح فيها من السوريين ما يكاد يشكل نصف عدد سكانها أو يزيد، ثم ماذا لو وجدت أن مدينة ككلس التركية فاق عدد السوريين فيها عدد سكانها الأصليين . فهنا لا بد أنك ستجد أن وجود المهاجرين كجماعات بدأت ترسم صورة المجتمعات الجديدة ، وبدأت هذه الصورة تنعكس في البيت أو الحديقة أو المطاعم أو المقاهي وغيرها من مناحي الحياة .
مظاهر جديدة كلياً تظهر في تركيا على يد المهاجرين
“الثريد ولبس الكلابية والشماغ والعقال العربي والعباءة المطرزة للرجال والعباءة السوداء للنساء” ، هذه المظاهر قبل ثلاث عشرة عام لم تكن لتجدها في بيت تركي واحد على طول امتداد الجغرافيا التركية ، وإن وجدتها مصادفة هنا أو هناك فإنك تجدها عند عائلة تنحدر أصولها إلى الأصول العربية ، ولكنها اليوم مظاهر تملأ الشوارع في تركيا في المحافظات التي استقبلت مهاجرين كان هذا زيهم في بلادهم ، وكان هذا ديدنهم في موطنهم الأصلي .
وقد انتقلت هذه العاادات مع المهاجرين انتقالاً سلساً وبسيطاً ولم يكلفهم الكثير ، وقد حدثني صديق لي يعيش في أورفا التركية أنه عندما قدم إلى تركيا في العام 2013 كان يقضي معظم وقته في أيامه الأولى في البحث عن ” صينية كبيرة ” لتقديم الطعام على عاداتهم التي نقلوها معهم . وحين كانت تركيا لا تعرف هذه الأمور من قبلهم فإن هذه المتطلبات لم تكن موجودة ، ولكنها حين وجدت طلباً أكثر من العادي ، فقد التفت أصحاب الحرف اليدوية إلى هذا الطلب الشاغر في السوق فبدأوا بتصنيع هذه الصواني وبيعها للسوريين ، ويضيف قائلاً : ” اذهب الآن إلى سوق الصناعات اليدوية لتجده مليئاً بهذا النوع من الصواني التي لا يشتريها الأتراك وإنما هي موجهة فقط لاستهلاك السوريين .
هذه الصواني التي صنعت في تركيا لم تصنع العادات السورية ، وإنما كانت حاملاً ليمارس السوريون أصحاب العادة عادتهم في صنع مناسف الثريد العامرة باللحم .
ومثل هذه كثير كالخبز السوري الذي لا يعرفه الأتراك ، ولكنهم بكل بساطة يبيعونه في محلاتهم التجارية لأنه أصبح أمراً واقعاً ومطلوباً من زبائنهم السوريين .
وقد امتدت هذه العادات إلى اللباس العربي ” كلابية وشماغ وعقال ” حيث تكاد حين تمشي في أحد شوارع شانلي أورفا ألا تلمح عشرة من الأتراك إلا وقد لمحت أمامهم خمسة أو ستة من السوريين بلباسهم التقليدي الذي درجوا عليه في بلادهم .
ومن جملة العادات المهاجرة مع السوريين إلى تركيا ، عاداتهم في الأفراح وبلباسهم العربي ، الأمر الذي عرضهم في بعض المواقف للاحتجاج المباشر أو غير المباشر من قبل الأتراك على نقل وممارسة هذه العادات في الأراضي التركية ، ومن ذلك ما تناقلته وسائل إعلام عربية وتركية قبل أشهر عن اعتراض مجموعة من الأتراك لمجموعة كان يعتقد أنهم من السوريين كانوا في موكب عرس بالزي التقليدي ، ليتبين لاحقاً أن الموكب لمجموعة شباب سعوديين كانوا يتشابهون في العادات والتقاليد مع السوريين المتواجدين بكثرة في الولاية التركية . ()
الخلاصة
لا نستطيع الفصل اليوم بين هجرة الأفراد وهجرة العادات والتقاليد والأزياء الشعبية ، ذلك أن مفهوم الهجرة الجديد قد تغير بحكم أن الهجرة جاءت نتيجة لحروب وعدم استقرار أمني مما دفع معظم الشعوب العربية ومن جملتها الشعب السوري إلى الهجرة بشكل جماعي ، مما جعل العادات والتقاليد مسافراً من بين المسافرين ومهاجراً من بين المهاجرين ، وراكباً في الصف الأول ، يعطي الصورة بصمت ، وقبل أن يتكلم المهاجر نفسه .