حارث سليمان
يمكن توصيف علاقة “حزب الله” بايران، بانه موظف لديها، يأتمر بأمرها ويعمل لها، وينفذ تعليماتها، مهما كانت مضامين هذه التعليمات واتجاهاتها، الحقيقة هذه كانت مموهة بغطاء ديني، هو واقع ولاية الفقيه، المتصلة بنوع من انواع التشيع، لكن الفضاء السياسي العام لهذه الوظيفة، والقدرة على نشرها وتحشيد التأييد لها، لم يكن نابعا من المضمون الديني، فالشيعة ليسوا اكثرية في الفضاء العربي او الاسلامي، وولاية الفقيه ليست الدعوة السائدة لدى اغلبية الشيعة، في دول المشرق العربي حتى، ولذلك فاختصار الوظيفة بالبعد الديني، يجعلها غير قابلة للانتشار والتمدد في الفضاء العربي والاسلامي.
لذلك فإن الوظيفة السياسية ل”حزب الله” لدى ايران، كانت مموهة ومبررة بالعداء للمشروع الصهيوني والدفاع عن فلسطين، وبالتزام مهمة قتال اسرائيل وتحرير المسجد الاقصى، ورفع راية فلسطين والاستحواذ على قضيتها.
وقد كشفت معركة غزة حقائق مثيرة، حول وظيفة “حزب الله” والتبدلات التي طرأت عليها في خدمة طهران، وقد تكون قد عرت البعض من مزاعمها وادعاءاتها.
فما هي طبيعة هذه الوظيفة وكيف تطورت والى اين وصلت؟!
حرصت طهران بداية سنة ١٩٨٣، على حصر وظيفة “حزب الله” بالاشتباك مع اسرائيل، واستعملت وزنها وتأثيرها، على الرئيس حافظ الاسد لحماية الحزب، وتمكينه من ان يكون طرفا سياسيا، يحمل في برنامجه وبنك اهدافه، مهمة واحدة هي قتال اسرائيل، وعليه أصبح الحزب هو حركة المقاومة الوحيدة، بعد ان تمت لصالحه، تصفية المقاومات الاخرى، من جبهة المقاومة اللبنانية، الى المقاومة الفلسطينية بعد حرب المخيمات، و التي تولت مهمة انجازها “حركة امل” برعاية سورية مباشرة.
بدأ “حزب الله”، بندقية تقاتل اسرائيل، لا شيء غير ذلك، لا خلاف مع اي طرف سياسي لبناني، لا تنافس على النفوذ مع احد، حول حصص في السلطة، لا وزراء ل”حزب الله” في اية حكومة خلال الوجود السوري في لبنان، لا استقواء او استهداف ل”حركة امل”، ولا طمع في حصتها من كعكة الدولة، بعدما اتفقت ايران وسوريا على ذلك، اثر انتهاء “حرب الإخوة” في اقليم التفاح…
لا يوجد فارق إن حصل ذلك، نتيجة رغبة ايرانية او عفة نفس “حزب ألهية”، او نتيجة قرار سوري بادارة الطائفة الشيعية على هذه الصورة، الامر ليس مهما، ما هو مهم ان الصورة كانت تبدو كذلك حقيقة او خداعا…
ولم تكن عمليات تفجير السفارات الاميركية والعراقية، والقوات المتعددة الجنسيات واختطاف الرهائن الاجانب، الا محطات مواجهة مع الغرب الذي يحالف اسرائيل ويحميها.
وقعت هذه الوظيفة في ظرفي زمان ومكان، كان فيهما الجنوب اللبناني محتلا من قبل الجيش الاسرائيلي، فتوافقت المصلحة اللبنانية بطرد الاحتلال، مع المصلحة الايرانية في توسيع النفوذ والاشتباك مع اسرائيل ربيبة الغرب.
لم يحد “حزب الله” في عهد الوصاية السورية عن هذا السلوك، الا سنة ١٩٩٨ حيث خاض الحزب الانتخابات البلدية، وبدأ صراعه مع القوى المحلية في الشارع الشيعي، فسعى لعزل القوى المدنية واليسارية الحزبية وتحجيم دورها، محاولا تارة استيعاب العائلات التقليدية، وطورا تفكيكها او إخضاعها، لكن “صورة قتال اسرائيل فقط” هذه كانت لحظة عابرة، سرعان ما انقلبت تماما الى صورة اخرى ومسار آخر…
اليوم، يجهد “حزب الله” واعلاميوه لتقديم الحزب على هذه الصورة كحقيقة دائمة ومستمرة، وهي صورة لم تعد تعكس اية حقيقة، او تمت لواقع الحزب باية صلة، بل تبدلت بالكامل بعد انسحاب اسرائيل سنة ٢٠٠٠، ثم انسحاب آخر جندي سوري سنة ٢٠٠٥.
منذ ذلك التاريخ فإن وظيفة الحزب، عند ايران طالها تبدلا استراتيجيا في ثماني محطات مفصلية على المستوى الداخلي اللبناني :
1) الأولى سنة ٢٠٠٠ اثر انسحاب جيش العدو من لبنان، وترسيم الخط الازرق كخط لانسحاب الجيش الاسرائيلي، تنفيذا للقرارين الدوليين ٤٢٥ و ٤٢٦. والجدير بالملاحظة هنا، ان الالتزام بالقرارات الدولية، لا يتوافق مع العقيدة الخمينية التي تعتبر “اسرائيل غدة سرطانية يجب استئصالها”.
٢) اما الثانية، فهي جريمة اغتيال رفيق الحريري، وما تلاها من اغتيالات طالت شخصيات لبنانية مختلفة… والتي توقفت بعد اتفاق الدوحة، الذي قايض وقف الاغتيالات بتمكين “حزب الله” من ممارسة الفيتو، والامساك بالثلث المعطل لعمل الحكومة اللبنانية وقراراتها…
٣) والثالثة، تكليف ايران ل”حزب الله” باستدراج اسرائيل لحرب تموز ٢٠٠٦، كحرب بديلة عن حرب مباشرة يين اسرائيل وايران، و بعد ان صدر القرار ١٧٠١، الذي نص على إقامة منطقة منزوعة من سلاح “حزب الله” في جنوب الليطاني، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب… وقد جرى تعزيز القرار ١٧٠١، بقرار جديد حمل الرقم 2650، بمناسبة تجديد مهلة عمل قوات “اليونيفيل”، وتطلق نسخة التجديد هذه، يد “اليونيفيل” جنوب الليطاني بشكل واسع لا يحتاج الى إذن، ولا يربط حركتها بمرافقة الجيش اللبناني لها. ولعل تطورات الجنوب اللبناني، وانفتاح جبهة قتال تساند غزة بعد عملية “طوفان الاقصى”، ستضع مندرجات القرار ١٧٠١، على طاولة البحث والصراع مجددا، عشية انتهاء الحرب في غزة.
٤) والرابعة، استعمال “حزب الله” لقواته العسكرية، من اجل اخضاع الطائفة السنية و”تيار المستقبل” في بيروت في ٧ ايار ٢٠٠٨، وما تلا ذلك من امساك “حزب الله” بمفاتيح القرارات السياسية الاساسية من خلال ممارسته التعطيل والفيتو الطائفي، في كل القرارات السيادية والسياسية المفصلية…
٥) اما الخامسة، فهو ترحيل الرئيس سعد الحريري سنة ٢٠١١، وتأليف حكومة موالية له وتخضع لاملاءاته.
٦) اما السادسة، فهي ايصال ميشال عون الى سدة رئاسة الجمهورية، بواسطة “بندقية مقاومته” كما أفصح عن هذه الحقيقة، نائبه نواف الموسوي في لحظة انفعال وزهو داخل مجلس النواب.
٧) اما السابعة، فهي لحظة انطلاق انتفاضة ١٧ تشرين وتصدي “حزب الله، لها، عبر امينه العام ورفعه “لاءاته الثلاثة؛ لا لاسقاط العهد، لا لاستقالة الحكومة، ولا لانتخابات نيابية مبكرة”، وهو بذلك اظهر موقعه الحقيقي، داخل سلطة منظومة الفساد والفشل والارتهان للخارج، كقائد للمنظومة وحاميا لها، ومدافعا عن استمرارها، حتى لو كلفه الامر حرق خيم الاعتصام، والتهديد بالحرب الاهلية عبر شراذم من “الرويبضة” تصرخ “شيعة شيعة”، في مواجهة ناشطين مدنيين سلميين…
٨) واما الثامنة، فهي انجاز ترسيم الحدود البحرية في لبنان، مع “دولة اسرائيل” استجابة لصفقة ايرانية- أميركية اسرائيلية، تم ابرامها بوساطة قطرية، وتولى اخراجها وتسويقها وتشريعها في لبنان “حزب الله” والجنرال عون.
اما التبدل في وظيفة “حزب الله” لدى ايران، على المستوى الاقليمي، فقد حدث نتيجة تكليفه بان يكون رأس حربة في الصراع السني الشيعي، والفتنة المذهبية التي تفاقمت نزاعاتها بعد ظهور “داعش”، وقد تجلى التغيير في وظيفة الحزب لدى ايران، في اربع محطات اضافية الى المحطات الثماني السابقة:
٩) تاسع هذه المحطات هو تكليف “حزب الله” بالقتال الى جانب نظام الاسد، والانخراط في معركة دعم نظامه، وقد قاتلت قوات “حزب الله” في سوريا كقوات مشاة، تتحرك تحت تغطية الطائرات الروسية التي تدمر المدن السورية المختلفة.
١٠ ) أما في العراق، فقد أمن “حزب الله” مهمات التدربب والاستشارة والقيادة، لفصائل الحشد الشعبي الولائية، فيما كانت هذه الفصائل تخضع لقيادة الجنرال قاسم سليماني، وتتمتع بغطاء جوي من الطائرات الاميركية وطائرات التحالف الدولي في مواجهة “داعش”.
١١) في اليمن والبحرين كان دور “حزب الله” مفصليا، في مواجهة المملكة العربية السعودية، وتأمين التدريب والدعم اللوجستي لتنظيم “انصار الله” في اليمن ولتمكين جماعة الحوثيين، من تهديد امن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، وقصف مطارات دبي والرياض، ومن خوض المعركة الاعلامية والسياسية في اليمن وبلسان عربي، ومن بيروت تم تأمين المنابر الاعلامية ومحطات التلفزة، والامداد العسكري لجماعة الحوثيين وحلفائهم في اليمن، الذين يتحكمون اليوم، انطلاقا من الحديدة بالملاحة في البحر الاحمر وباب المندب…
وقد فَسَّر “حزب الله” ومحور طهران، بان كل نشاطاته وصولاته وجولاته في كل دول الاقليم، على انها خطوات تتقدم وتتراكم على طريق القدس، من اجل تحرير المسجد الاقصى واستعادة فلسطين لشعبها.
لذلك فقد امتازت خطابات السيد حسن نصرالله، كناطق عربي باسم المحور، منذ الانسحاب الاسرائيلي من لبنان سنة ٢٠٠٠، بتخصيص جزء من مطالعاته لمهاجمة اسرائيل والوعيد لها وتهديدها، تارة بتزايد اعداد صواريخه، وطورا بمداها وثالثة بدقتها، ورابعة بانتظام عقد المحور، وتعدد ساحات المواجهة ووحدتها، وخضوعها لغرفة عمليات واحدة، والى تفنيد وإدانة العجز العربي عن مواجهتها، والدعوة لمقاومتها والانخراط في محور ايران، الحامل لقضيتها، والذي لا يهادن ولا يساوم في اي حق من حقوق شعبها.
١٢) فلسطين
سعى محور طهران. بما في ذلك، “حزب الله”، الى تبني ودعم “حركة حماس” و”حركة الجهاد” الاسلامي، كطرفان فلسطينيين يتمتعان بالمساندة والتحالف والتأييد والرعاية؛ تدريبا وتمويلا وتسليحا، ويتبنيان، امرين اساسيين : الاول مناهضة منظمة التحرير الفلسطينية والتشكيك بشرعيتها، وصولا لاقامة كيان في غزة بقيادة “حركة حماس”، منفصل عن سلطة الضفة الغربية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، و الثاني ؛ تخريب اي مسار لتنفيذ تسوية سلمية للقضية الفلسطينية، ومواجهة اي مفاوضات برعاية اميركية، بعمليات انتحارية تطال العمق الاسرائيلي، وتنمي لديه قوى التطرف والعنصرية.
على الضفة الاخرى من الصراع، كان ينمو اليمين القومي والديني الصهيوني، المترعرع في احضان المسحانية الصهيونية الاميركية، التي تعمل لتهويد الضفة الغربية، والذي يغذي توسيع عمليات الاستيطان في الضفة الغربية ويتغذى منها، ويقضم المزيد من الاراضي الفلسطينية، ويقيم عليه المستوطنات التي تقطع اوصال الضفة الغربية، وتحول مدنها الى معازل محاصرة، وتمنع قيام دولة ذات تواصل جغرافي …
وكان برنامج هذا اليمين يتقاطع تماما مع برنامج الممانعة في مناهضة ورفض حل الدولتين، ومسار التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، ولذلك كان اليمين الاسرائيلي بقيادة نتنياهو مرتاحا ومتواطأ مع سلطة حماس في غزة، يغض الطرف عن توسع نفوذها، ويسهل سيطرتها كغريم منافس لسلطة الحكم الذاتي في رام الله، ويبرر انقلابه على اتفاقية اوسلو بالانقسام الفلسطيني، وبعدم وجود شريك فلسطيني للسلام المطلوب دوليا.
وعلى قاعدة العداء لتسوية سلمية للقضية الفلسطينية، نجحت ايران في مد نفوذها الاقليمي لدول المشرق العربي واليمن، فيما نجح اليمين الاسرائيلي على نفس القاعدة، في اسقاط مبدأ “الارض مقابل السلام”، وفي عقد صفقة القرن خلال ولاية ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب، والتطبيع مع دول اصابها الذعر من ايران، كالامارات والبحرين والسودان، على قاعدة السلام مقابل السلام فقط، وعلى اعتبار الحقوق الفلسطينية، حقوقا انسانية لافراد وليس قضية وطنية لشعب يريد تقرير مصيره.
على قاعدة تكامل الاهداف والمرامي، بمنع التسوية السلمية لقضية فلسطين، وتقاطع الادوار والمصالح، نجح اليمين الاسرائيل ومحور الممانعه معا، في تقاسم النفوذ في المنطقة ولعب كل طرف دورا اقليميا، في ازمات المنطقة وخارج حدوده.
اعادت عملية “طوفان الاقصى”، خلط الاوراق في كل الساحات، واربكت الادوار جميعا، لانها لم تكن عملية ايرانية القرار، بل فلسطينية تماما.
كما كانت انجازاتها على المستوى العسكري والاستراتيجي، انقلابا مدويا لنظرية الامن ولقوة الردع الاسرائيلية، ولسمعة جيش ادعى انه لا يقهر، مما مكّن كيان العدو من لعب دور اقليمي مزعوم، في ازمات المنطقه وخارج حدوده…
كما نسفت العملية هندسة الانقسام الفلسطيني، المفيدة لاسرائيل، فعادت دول العالم باجماع لافت، للسعي الى حل الدولتين و الدعوة لانشاء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، فيما اعلنت “حماس” تعاملها الايجابي مع احتمالها، ووافقت ايران في مؤتمر القمة العربية والاسلامية، المنعقد بالرياض على بيان يطالب بحل الدولتين.
كما اخضعت حرب غزة محور الممانعة، لاختبار مصداقية مزاعمه وعنترياته، فظهر مربكا ومحرجا، بين ما يقول وما وعد به، وبين ما يفعل وينفذ، وساد صمت عميم لفترة طالت، ثم توالت اعلانات تبرُئه من العملية، ومن علم ايران وكل اذرعتها بها، بعد ان ملأ فضاء الاعلام بتسريبات، عن غرفة عمليات في بيروت تدير كل امر فيها، ثم اختار المحور ان يمسك واجبا مع غزة، فأنحصر دوره ببضعة قذائف من العراق، وحفنة مسيرات من اليمن، واشتباكات عبر حدود لبنان لا تقدم ولا تؤخر في معركة غزة، بل تستر عورة المحور، وتخفي حرجه من انكشاف عدم تأثيره.
وعليه، عادت راية فلسطين لاهلها وشعبها، فهل يعود العرب لرفع هذه الراية، لا دعما لقضية عادلة وشعب شقيق فقط، بل سدا لنافذة تدخل منها ايران لتوسيع نفوذها؟
اخيرا وليس آخرا، أظهرت عملية “طوفان الاقصى” كم هي ساذجة اوهام البعض، بامكانية تمتعه بحماية اسرائيل بوجه ايران، مقابل التطبيع معها، في حين ان اسرائيل تحتاج الغرب لحماية نفسها.
على ضوء كل هذه التطورات، اي وظيفة يمكن لأيران ان تعهد بها ل”حزب الله”، في حال السير بحل الدولتين؟!