أوكرانيا ساحة صراع الناتو وروسيا
عمار جلو
لا تمثل الحالة الأوكرانية الملتهبة إلا قمة الجليد لجبل الخلافات المتراكمة بين دول الناتو وروسيا, ليست الأزمة الأوكرانية وليدة يومها بل تمتد بعيداً في التاريخ القريب والبعيد, فمنها ما رافق قيام الاتحاد السوفيتي ومنها ما رافق ولاحق انهياره في تسعينيات القرن الماضي.
بدأت الأزمة الأوكرانية مع تشكل منظومة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية عام 1922 و ما رافقه من ضم مناطق صناعية وتعدينية روسية لأوكرانيا, ومنها ميناء أوديسا, لأسباب ايدولوجية تتمثل بتغليب البروليتاريا العمالية على الفلاحين الأغنياء ال(كولاك), الفئة المسيطرة في أوكرانية, كما تم إلحاق شبه جزيرة القرم بالدولة الأوكرانية عام 1954لأسباب إدارية, كونها أقرب لكييف منها إلى موسكو. وللحصول على موافقة ميخائيل غورباتشوف, آخر الزعماء السوفييت على قبول وحدة شطري ألمانيا ودخولها حلف الناتو, قدمت واشنطن “كلمة شرف” عن طريق وزير خارجيتها آنذاك جيمس بيكر، والذي وعد فيها : “أن المصالح السوفيتية ستكون أكثر أمنًا مع انضمام ألمانيا الموحدة إلى حلف الناتو بدلاً من ألمانيا خارج الناتو، وإنه لن يكون هناك تمديد لولاية الناتو أو قواته “بوصة واحدة إلى الشرق” من حدود ألمانيا الموحدة, وفق الدبلوماسي الأمريكي السابق ومدير وكالة المخابرات المركزية الحالي, وليام بيرنز.
مما تقدم ندرك عمق الأزمة الروسية مع دول الناتو عموماً ومع أوكرانيا خصوصاً, وهو ما عبّر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حديثه للرئيس الأمريكي الأسبق, جورج دبليو بوش في قمة الناتو المنعقدة بالعاصمة الرومانية بوخارست عام 2008 بالقول: “جورج, عليك أن تفهم هذا الأمر جيداً- أوكرانيا لا يمكن وصفها حتى بأنها دولة – ماهي أوكرانيا؟ جزء من أراضيها يقع في أوربا الشرقية, ولكن الجزء الأكبر منها هدية منا”.
بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو, توقع المفكرون الاستراتيجيون الروس تفكك حلف شمال الأطلسي, غير أن الحلف تمدد بمهام خارج أوربا المعني بحمايتها من الشيوعية السوفيتية, بحسب فهم المفكرون الروس, بالإضافة لتمدده في دول أوربا الشرقية,السوفيتية سابقاً. قبل التفاوض لضم جورجيا وأوكرانيا عام 2008, وطرح فكرة ضم فنلندا والسويد عام 2020، عاد الجدل بين دول الناتو وروسيا التي تحدثت عن “خيانة” واشنطن لكلمة “الشرف”، فيما ردت الأخيرة بعدم وجود أي نص مكتوب بخصوص “الوعد” الروسي المزعوم، وأن أحاديث المسؤولين السابقين غير الموثقة توثيقًا قانونياً لا تكون ملزمة للإدارات التالية.
وبالعودة للموضوع الأوكراني, محل المقال, نرى أن السياسة الروسية تعمل على تصحيح ما تعتبره موسكو أخطاء تاريخية وتأثيراتها على الأمن القومي الروسي, لذا تدخلت موسكو سريعاً بالدول التي طالها الدعم الغربي ضمن مسمى الثورات الملونة, ومنها أوكرانيا, حيث قامت موسكو بضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها, مستغلةً حالة هياج القوميين الأوكران وتوفيرهم المبررات اللازمة لموسكو في هذه العملية, إضافة لدعم التمرد المسلح في شرق أوكرانيا وتوقيع اتفاقية مينسك في أيلول 2014 واحتفاظ بوتين بالطلب المقدم من قبل جمهوريتي “لوغانسك” و “دونيتسك” للانضمام إلى الاتحاد الروسي على غرار القرم.
وضعت موسكو خطوط حمراء أمام دخول كييف في حلف الناتوإضافة لسعي موسكو إلى توحيد الشرق الأوكراني بالقوة, وفي المقابل عملت واشنطن على تغيير استراتيجيتها تجاه كييف, من خلال تزويدها بالأسلحة الفتاكة التي حجبتها عنها إدارة أوباما وقدمتها إدارتي ترامب وبايدن مع دعم قدرات الجيش الأوكراني وتحويل عقيدته العسكرية نحو الناتو, إضافة لتحديث أسلحته وتكتيكاته عبر مناورات مشتركة مع جيوش الناتو, بجانب احتضان تركيا ل”مجلس شعب تتر القرم” وزيادة نشاطهم التحريضي ضد موسكو, ما يعني مقاربة غربية جديدة تعني ضم أوكرانيا إلى الناتو دون أن تكون عضواً فيه, أي دون الاستفادة مما توفره العضوية من معاهدة الدفاع المشترك, وهي مقاربة تصّعب على موسكو تطويع كييف, لذا عمدت موسكو إلى ابتداع نهج” الدعوة للحلول الدبلوماسية عبر الحشود العسكرية” وهو ما تشهده الساحة الأوكرانية حالياً.
ترى موسكو في نهج الحلول الدبلوماسية عبر الحشود العسكرية نهجاً يحقق لها مصالحها في الظروف الحالية للولايات المتحدة الأمريكية وأوربا, والتي يمكن اختصارها بإعادة الهدية السوفيتية الممنوحة لأوكرانيا أو أن تكون الأخيرة إلى جانب موسكو, إذ ترغب موسكو بانضمام كييف إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بغية تحويل هذا الاتحاد لقوة حقيقية تؤهله للتحول لقوة عسكرية وجيوسياسية منافسة للاتحاد الأوربي وأمريكا من جهة والصين من جهة أخرى, مع ما يتضمن الانضواء الأوكراني ضمن الاتحاد إلى رفع موسكو لمصافي القوى العالمية, من خلال منحها الوصول للشواطئ الدافئة وبوابة للدخول إلى أوربا, بالإضافة لتأمين حدود روسيا مع الغرب وتشجيع دول أوربية أخرى على الانضمام و حل الأزمة الديمغرافية لموسكو من خلال أوكرانيا التي يعيش فيها قرابة 40 مليون يرتبطون بعلاقات ثقافية وعرقية وتاريخية مع موسكو.
تقبع كييف على فوهة بركان الخلافات الروسية الأطلسية وتمثل رأس حربتها, لذا لا تبدو أفق قريبة لحل الاستعصاء الحاصل في الأزمة الحالية, في ظل عدم قدرة بوتين على التراجع عن مطالبه الأمنية والسياسية وعدم نية واشنطن تقديمها لموسكو, مع تصعيد إعلامي أمريكي حول نوايا غزو روسي قريب لكييف, ضمن استراتيجية واشنطن لزيادة الشرخ بين موسكو والدول الأوربية ومنع أي اتفاق بين الطرفين في المنظور, حتى لو أدت هذه الاستراتيجية لدفع لموسكو لابتلاع الطعم الأوكراني, وهو ما تدركه موسكو وتأمل ألا تدفعها الأحداث لذلك.
نورس للدراسات