ميرا ضحية عقد اجتماعي لا يعترف بالفرد
غسان الجمعة
ميرا، فتاة من الطائفة العلوية في سوريا، قررت أن تكمل مشوار حياتها مع شاب يُدعى أحمد من مدينة حمص، ينتمي إلى الطائفة السنية. بدا هذا القرار في الظاهر فعلًا بسيطًا يخص حياةً خاصة، لكنه اصطدم بجدار سميك من الرفض العائلي المتكرر، الذي لم ينبع من اختلاف الطبائع أو التقاليد، بل من اعتبارات مذهبية صرفه. حينها قررت ميرا، بإرادتها الحرة، أن ترتبط بأحمد بعيدًا عن رغبة أهلها، لتجد نفسها في مواجهة سلطة جماعية متوارثة، لا تعترف بحرية الاختيار، بل تراها تهديدًا لبنيتها ومقدساتها.
قصة ميرا لم تعد قصة زواج، بل تحولت إلى مرآة حادة تعكس هشاشة العقد الاجتماعي السوري، وانقسامه العمودي الحاد الذي يتغذى على الطائفية، ويحوّل أي سلوك فردي إلى مسألة أمن جماعي.
لم تكن ميرا وأحمد سوى نموذج من آلاف النماذج، التي تختنق يوميًا تحت وطأة الانتماء القسري، وحيث يُختزل الإنسان في إيدلوجيا محلية قسرية، تسحق فردانيته لصالح الطائفة، أو القبيلة، أو الجماعة، أو العرق، والمذهب.
الطائفة: السلطة الديكتاتورية الجديدة
في الواقع السوري الراهن، لم تعد الطائفة مجرد إطار ديني أو ثقافي، بل تحولت إلى فاعل سياسي واجتماعي يتجاوز سلطات القانون والدستور، بل يقف فوقها، حتى غدت هي من تُعرّف الحلال والحرام، وتقرّر ما هو ظلم أو عدل، وفق موازين لا تُبنى على المصلحة العامة أو الحقوق المدنية، بل على منطق الكراهية والتمييز والانغلاق.
هكذا، تصير الطائفة هي الحَكم والخصم، وتُمارس سطوتها على قرارات الأفراد، وتُخضع حرياتهم لمعاييرها الخاصة. فحرية ميرا، كأنثى وإنسانة، لم تُقرأ في المجال العام بوصفها حقًا ذاتيًا، بل كخروج عن الجماعة وخيانة لهويتها. والطائفة، وقد ألبسها النظام السياسي السابق شرعية فوق قانونية لعقود، هذا الإرث الثقيل يفرض اليوم نفسه باعتباره المرجع الأعلى، ويحاول أن يكون بديلًا عن الدولة والمؤسسات، كمشرع يحدد الحقوق والواجبات ويرتب المسؤوليات.
دولة بلا تمكين وقوانين بلا روح
ليست السلطة كما تُصوَّر في مخيلة العامة بأنها مجرد قوة إكراه، أو سلاح، أو جهاز أمني. بل هي – كما يقول ميشيل فوكو – شبكة معقدة من العلاقات التي تبدأ من الأسرة، وتمر بالمؤسسة الدينية، ولا تنتهي عند الدولة. وفي السياق السوري، تآكلت الدولة كمفهوم ضامن للحقوق الفردية، وتحولت إلى مجرد جهاز أمني، عاجز عن صيانة الحريات، أو حماية خيارات الناس خارج طوائفهم.
غياب القوانين العادلة، القادرة على تحييد الجماعة لصالح الإنسان، جعل حرية ميرا وأحمد مساحة محرّمة، تهيمن عليها فتاوى الشيوخ، أو ضغوط الزعماء، أو العرف الاجتماعي، لا نص الدستور ولا روح العدالة. فالطائفة لم تعد تحكم فقط ما نعتقده، بل ما نحبه، ومن نختاره، وكيف نعيش.
ولعل أكثر ما يكشفه مشهد كهذا هو أن التنوع السوري – الذي يفترض أن يكون مصدر ثراء حضاري – صار أداة يُستخدم لقمع الإنسان، لا لتمكينه. فالخصوصية لأي جماعة ولاسيما عقب الحرب والثورة والتغييرات السياسية والاجتماعية الكبيرة، حين تنمو خارج منظومة الحقوق، تتحول إلى قيد يقتل حرية الفرد بدل أن يحميها.
الإرث الطائفي الثقيل الذي رسّخه نظام الأسد عبر عقود من الحكم الأمني والسياسي لم ينتهِ بسقوط سلطة أو تغير في الخارطة الجغرافية، بل ما زال حيًا يتكاثر في المجتمع، ويعيد إنتاج نفسه. هكذا انعكس هذا الإرث على قرار ميرا، كما سينعكس على قرارات آلاف السوريين في الزواج، والتعليم، والعمل، والتعبير، والسكن، والتجارة وغيرها من وجوه النشاط الإنساني.
عقد اجتماعي ممزق وحقوق مُستلبة
قصة ميرا وأحمد تعيد طرح سؤال الدولة في سوريا: ما جدوى دولة لا تُمارس حيادها أمام الجماعة؟ وأي عقد اجتماعي ذلك الذي يُرغم أفراده على التماهي مع طوائفهم قسرًا؟ في سوريا، لم يعد العقد الاجتماعي قائمًا على المواطنة، بل على موازين القوى بين الجماعات. الفرد لم يعد موجودًا إلا بوصفه ابن الطائفة، أو ابن القبيلة، أو أداة الجماعة والعرق.
وهنا، تُختزل مؤسسات الدولة، ويُترك المواطن السوري في مواجهة قوى متعددة: الشارع، الشيخ، العشيرة، المذهب، و”الصفحة الفيسبوكية”، أما الدستور، فليس سوى نص مؤجل، لا سلطة له أمام “العُرف القاتل”.
دور إعلامي مبتور ومشوه
لم يكن الإعلام بعيدًا عن هذه المأساة. فقد كشفت قصة ميرا العجز المهني لوسائل الإعلام الرسمي الذي تعامل مع الحدث متأخراً وبخجل، بل بارتباك ناتج عن ما تربى عليه بعض كوادره من أساليب التبعية للسلطة وأجهزتها من حقبة الديكتاتورية، وعدم الجرأة على مقاربة القصة كما هي، بعيدًا عن القوالب.
أما التفاعل الإعلامي غير الرسمي وقع بعضه في فخ التجاهل أو التحريض والتضخيم والاستثمار الطائفي. وتحولت قصة شخصية إلى سردية كراهية، وأُلبست قرارات ميرا وأحمد تهمًا على منصات التواصل الاجتماعي تصل إلى الخطف والردة والسبي، في مشهد تراجيدي يعكس حجم الانهيار في المجال العام.
ما نحتاجه في سوريا اليوم ليس فقط إعادة بناء الجدران والبنية التحتية فقط، بل إعادة بناء “العقد” الذي يربط الناس ببعضهم البعض. عقد يعترف بالفرد، لا الجماعة، ويجعل حرية الإنسان وحياته وقراره فوق الطائفة والمذهب، والجماعة والعرق، لا العكس.
إن كانت ميرا اليوم ضحية خطاب الطائفة، فإننا جميعًا مشاريع ضحايا في ظل غياب دور حقيقي لمفهوم الدولة والمواطنة، والعقل الجمعي الحر، والمجال العام المنفتح. وما لم يُعاد تعريف “الحق والحرية” من منطلق إنساني مدني متوازن يراعي المصلحة العامة وحريات الأفراد، فسيظل كل قرار فردي مرهونًا بعين الجماعة، وكل حب مشبوهًا، وكل زواج جريمة، وكل شراكة بين شخصين خيانة ما لم ترضى العصبية والتعصب عنها.
غسان الجمعة، كاتب وصحفي سوري يشغل منصب رئيس تحرير صحيفة “حبر”، ويحمل درجة الماجستير في القانون الدولي العام.