آليات تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد
سعد الأطرش
تعد العدالة الانتقالية إحدى الركائز الأساسية لبناء الدول بعد النزاعات المسلحة أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
في الحالة السورية والتي شهدت أكثر من أربعة عشر عامًا من القمع والانتهاكات من قبل النظام، فإن تحقيق العدالة الانتقالية بعد سقوط النظام أصبح أولوية رئيسية في مرحلة ما بعد النزاع.
ارتكب نظام الأسـ.ـد انتهاكات فظيعة بحق الشعب السوري، القتل الجماعي، التعذيب، الاعتقال التعسفي، الهجمات الكيميائية، التغييب والتشريد القسري، ولا شك أن محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات وضمان حقوق الضحايا وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس العدالة والمساواة تشكل تحديات كبيرة لبناء سوريا المستقبل.
بعد سقوط نظام الأسد، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لأكثر من أربع عقود، يجد الشعب السوري نفسه أمام تحدٍ تاريخي في بناء دولة جديدة قائمة على العدالة والمساواة.
لقد ارتكب النظام السوري العديد من الانتهاكات الجسيمة التي خلفت آثارًا مدمرة على المجتمع السوري، إذ تم استخدام القوة العسكرية والشرطة والأمن السريين لتطبيق سياسات القمع والتنكيل، مما أسفر عن مئات الآلاف من القتلى والمفقودين، إلى جانب العديد من المهجرين داخليًا وخارجيًا، لم تقتصر ممارسات النظام على الأذى الجسدي فحسب، بل امتدت لتشمل محو الهويات الثقافية والدينية وفرض السيطرة عبر الاعتقال والتعذيب. وهذا كله يضع عبئًا ثقيلًا على الحكومة في بناء الثقة بين مختلف فئات الشعب السوري وإعادة تحقيق العدالة التي غابت لسنوات طويلة.
الآليات الرئيسية لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا:
1. المحاسبة القضائية
من أهم آليات العدالة الانتقالية هي محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
بعد سقوط نظام الأسد، ستحتاج سوريا إلى محاكمات عادلة تتضمن محاسبة جميع المتورطين في الجرائم، بدءًا من أعلى الهرم السياسي في النظام وصولًا إلى العناصر الأمنية والعسكرية التي ارتكبت الانتهاكات، قد تكون المحاكمات على المستوى المحلي أو الدولي، حيث يمكن أن تلعب المحكمة الجنائية الدولية دورًا في محاكمة القادة المتورطين في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. لكن يتطلب إتمام هذه المحاكمات بيئة قانونية محايدة، وهو أمر معقد في ظل الوضع الأمني والسياسي الراهن.
2. لجان الحقيقة والمصالحة
تهدف لجان الحقيقة والمصالحة إلى الكشف عن حقيقة ما حدث خلال سنوات النزاع، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، والاستماع إلى شهادات الضحايا. في حال سقوط النظام، يمكن تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت من قبل نظام الأسد، والقوى والمليشيات الأجنبية المشاركة في الصراع. هذه اللجان يمكن أن تسهم في تقديم صورة دقيقة لما حدث من خلال جمع الشهادات وتوثيق الجرائم التي ارتكبت، وهو ما يساهم في عملية المصالحة المجتمعية ويعيد الثقة بين أطياف المجتمع السوري المختلفة. ومع ذلك، تبقى المشكلة الكبرى في عدم القدرة على ضمان الأمن للضحايا والشهود في الظروف الراهنة.
3. التعويضات والعدالة الانتقالية الاقتصادية
يجب أن تكون العدالة الانتقالية في سوريا شاملة، ولا تقتصر على المحاكمات فقط. جزء كبير من عملية التعافي هو تقديم تعويضات للضحايا الذين عانوا جراء الانتهاكات. تتراوح التعويضات بين تعويضات مالية، وإعادة الممتلكات المصادرة، إلى توفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي.
إعادة التأهيل النفسي للضحايا هو عنصر أساسي من عناصر العدالة الانتقالية. كثير من السوريين فقدوا عائلاتهم أو تعرضوا للتعذيب، وسيحتاجون إلى دعم كبير في مرحلة ما بعد النزاع. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تشمل التعويضات تدابير للمجتمعات المتضررة اقتصاديًا، خاصةً في المناطق التي دمرها النزاع.
4. الإصلاحات المؤسسية
من أجل ضمان عدم تكرار الانتهاكات، من الضروري القيام بإصلاحات عميقة في المؤسسات الحكومية، خاصة في الأجهزة الأمنية والقضائية. يتعين إعادة بناء المؤسسات على أسس من الشفافية والمساءلة، وأن تكون محايدة سياسيًا لضمان عدم استغلال السلطة مرة أخرى ضد المواطنين. يمكن أن تشمل الإصلاحات القضائية إعادة تأهيل القضاة، وإنشاء محاكم مستقلة، وضمان استقلالية النظام القضائي. أما بالنسبة للأجهزة الأمنية، فتتطلب العدالة الانتقالية إعادة بناء هذه الأجهزة على أسس من احترام حقوق الإنسان والابتعاد عن ممارسات القمع والتعذيب التي كانت سائدة في عهد النظام المجرم.
5. المصالحة المجتمعية
المصالحة المجتمعية تشكل أحد أهم جوانب العدالة الانتقالية في سوريا. نظراً للتنوع العرقي والطائفي والديني في البلاد، من المهم تحقيق مصالحة شاملة بين مختلف المكونات المجتمعية بعد سنوات من الفتنة والصراع. قد تشمل هذه المصالحة برامج حوارية بين المكونات المختلفة، وفتح قنوات للتفاهم والاعتراف بالمعاناة المشتركة. تعتبر المصالحة المجتمعية عملية طويلة الأمد، وتحتاج إلى بنية تحتية من التعليم والإعلام تهدف إلى نشر قيم التعايش السلمي والقبول بالآخر. تتطلب هذه العملية إرادة سياسية قوية من الحكومة المستقبلية ومنظمات المجتمع المدني للمساعدة في إعادة بناء الثقة بين أفراد الشعب السوري.
التحديات أمام العدالة الانتقالية في سوريا:
تواجه عملية العدالة الانتقالية في سوريا العديد من التحديات. من بين هذه التحديات الانقسام السياسي العميق بين الأطراف المختلفة، وتدهور الوضع الأمني، وصعوبة الوصول إلى المحاكمات في بعض المناطق. إضافة إلى ذلك، هناك تأثيرات القوى الخارجية التي قد تعرقل هذه العملية، مثل التدخلات الأجنبية التي قد تؤدي إلى توترات جديدة داخل المجتمع السوري. ومع ذلك، يبقى الأمل في أن تتضافر الجهود الدولية والمحلية للوصول إلى مرحلة تكون فيها العدالة الانتقالية أداة لبناء سوريا جديدة قائمة على قيم الحرية والعدالة.