بين التحديات والفرص : سوريا أمام لحظة الحقيقة
أحمد السالم
تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق حاسمة ، فإما أن تكون هذه المرحلة بداية لتعافٍ حقيقي ، وإما أن تغرق البلاد أكثر في أزماتها المتراكمة .
لقد دفعت سوريا ثمنًا باهظًا خلال العقود الماضية ، حتى باتت كل مشكلة فيها أزمة قائمة بذاتها ، وكل تحدٍّ أمامها يبدو كأنه جبل يصعب تسلقه .
لكن وسط هذه الصورة القاتمة ، لا تزال هناك فرص للخروج من عنق الزجاجة ، إذا ما توفرت الإرادة السياسية ، واتُّخذت القرارات الصائبة ، بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمصالح المؤقتة .
الأمن أولًا :
لا مكان للفوضى بعد اليوم، لا يمكن بناء دولة قوية دون أمن ، ولا يمكن الحديث عن اقتصاد مستقر أو عودة للحياة الطبيعية في ظل انفلات السلاح وانتشار الفلول والجماعات الخارجة عن القانون .
اليوم سوريا لا تزال تواجه تهديدات أمنية كبيرة ، بدءًا من فلول النظام البائد، التي تحاول رسم طريق الحرب الأهلية ، مرورًا بالحدود غير المنضبطة التي تُستغل للتهريب وتسلل المقاتلين الأجانب ، وصولًا إلى انتشار السلاح بشكل يهدد نسيج الدولة .
إن ضبط هذا الملف يتطلب حزمًا بلا تهاون ، فالاستقرار لا يُبنى على التسويات الهشة ، بل على سيادة القانون والضرب بيد من حديد على كل من يعبث بأمن البلاد .
الجيش والأجهزة الأمنية أمام مهمة تاريخية ، ليس فقط في القضاء على بقايا الشبيحة والمجرمين ، بل في استعادة الدولة لهيبتها كاملة ، بحيث لا يكون هناك أي سلاح خارج إطارها الرسمي .
الواقع الإقتصادي :
حرب أخرى يجب كسبها، إن كان الأمن هو التحدي العاجل ، فإن الاقتصاد هو التحدي الأخطر والأكثر تعقيدًا .
سوريا اليوم تعاني من انهيار في قيمة عملتها ، وتضخم غير مسبوق ، وندرة في الموارد الأساسية مثل الوقود والطاقة ، ناهيك عن إستمرار العقوبات التي فاقمت الأزمة .لكن الحقيقة أن الحل لا يكمن فقط في انتظار رفع العقوبات ، بل في إيجاد حلول من الداخل .
لماذا لا يتم تعزيز الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الخارج ؟
ولماذا لا تُفتح الأبواب أمام المستثمرين المحليين بدلًا من انتظار الاستثمارات الخارجية المشروطة ؟
إن تحفيز القطاعات الإنتاجية ، سواء الزراعة أو الصناعة ، يمكن أن يكون بداية لتعافٍ اقتصادي حقيقي ، بعيدًا عن المسكنات المؤقتة .
إعادة الإعمار : لا مجال للعشوائية
لقد دُمرت مدن بأكملها خلال الثورة ، ولا تزال هناك مناطق غير صالحة للسكن ، بينما يواجه النازحون واللاجئون صعوبات في العودة بسبب غياب البنية التحتية والخدمات الأساسية .
لكن إعادة الإعمار ليست مجرد عملية بناء حجارة ، بل هي إعادة بناء دولة على أسس صحيحة ومدروسة .
لا يمكن أن تتم هذه العملية في ظل الفساد والمحسوبيات التي كانت أحد أسباب انهيار الدولة في المقام الأول .
يجب أن تكون هناك رؤية واضحة ومستدامة ، تعتمد على الشفافية ، وتستفيد من الشراكات الاقتصادية دون المساس بالسيادة الوطنية .
المصالحة الوطنية :
دون المساس بهيبة الدولة، لا شك أن الحرب خلفت انقسامات عميقة بين أبناء الوطن ، لكن المصالحة الحقيقية لا تعني التغاضي عن الجرائم أو تقديم تنازلات على حساب الدولة .
من تورط في الإجرام بحق الشعب السوري وساهم بالفوضى لا يمكن أن يكون جزءًا من المستقبل ، والمحاسبة العادلة يجب أن تكون أساس أي مصالحة .
أما المواطن السوري العادي ، الذي وجد نفسه في وسط الصراع دون أن يكون له يد فيه ، فهو يستحق العودة إلى وطنه بأمان ، وأن يكون جزءًا من عملية إعادة البناء ، دون خوف أو إقصاء .
إصلاح القضاء والعدالة الإنتقالية وسيادة القانون
ترسيخ مبدأ العدالة الإنتقالية ، وتوعية الشعب بهذا الإطار ، إن القضاء المستقل هو أساس أي دولة قوية .
النظام القضائي بحاجة إلى إصلاحات حقيقية تضمن استقلاليته ، وتمنع أي تدخلات سياسية أو أمنية في قراراته ،تحديث القوانين ، وتسريع المحاكمات ، وضمان حقوق المواطنين في التقاضي العادل ، كلها خطوات ضرورية لبناء ثقة الشعب في مؤسسات الدولة .
السياسة الخارجية :
كسر العزلة والتعامل وفق المصالح، سوريا بحاجة إلى إعادة ترتيب علاقاتها الخارجية ، فالعزلة السياسية والاقتصادية لا يمكن أن تستمر إلى الأبد .
هناك اليوم بوادر لإنفتاح عربي وغربي على دمشق ، وهو أمر يجب استثماره بحكمة ، بعيدًا عن أي تنازلات تمس السيادة .
في الوقت ذاته ، لا بد من سياسة خارجية متوازنة ، تضمن لسوريا استعادة دورها الإقليمي والدولي ، دون أن تقع في فخ التحالفات التي قد تجرها إلى أزمات جديدة .
اللاجئون :
العودة بكرامة ولكن
عودة اللاجئين السوريين يجب أن تكون أيضًا من الأولويات ، لكنها لا يمكن أن تتحقق دون ضمان بيئة آمنة لهم ، ليس فقط أمنيًا ، ولكن أيضًا اقتصاديًا واجتماعيًا.
هناك من يخشى العودة بسبب الإنفلات الأمني ، والظروف المعيشية الصعبة ، وشبه إنعدام الخدمات الأساسية ، وعدم وجود فرص عمل كافية ، وهذا يتطلب أن تكون الدولة قوية وملمة بمتطلبات الشعب ومواكبة للحداثة والتطور .
الحل يبدأ بتحسين الأوضاع داخل البلاد ، وتقديم ضمانات حقيقية للعائدين ، بعيدًا عن أي استغلال سياسي لهذا الملف .
الفساد :
عقبة يجب كسرها، إذا كان هناك مرض مزمن عانت منه الدولة السورية قبل الحرب ، فهو الفساد بلا شك .
لقد كان هذا السرطان أحد العوامل التي أدت إلى انفجار الأوضاع ، واليوم لا يمكن إعادة بناء دولة حديثة دون اجتثاثه من جذوره .
المحاسبة والرقابة يجب أن تكون شاملة ، من أعلى الهرم إلى أدناه ، وإلا فإن أي إصلاح اقتصادي أو سياسي سيكون بلا معنى .
الخدمات الأساسية :
الحياة الكريمة حق لكل مواطن، بعد سنوات من الحرب ، بات المواطن السوري يواجه صعوبة حتى في الحصول على أبسط حقوقه الأساسية ، من كهرباء ومياه وتعليم وصحة .
لا يمكن بناء دولة دون توفير هذه الخدمات للمواطنين ، ولا يمكن مطالبة الناس بالصبر أكثر مما صبروا .
يجب أن تكون هناك خطط طارئة لمعالجة هذه الأزمات ، بالتوازي مع خطط طويلة المدى تضمن استدامة هذه الخدمات وتحسين جودتها .
الإيمان بالشباب : طاقة ومستقبل سوريا
إن كان هناك من دفع الثمن الأكبر خلال هذه الثورة ، فهم الشباب السوريون . فقدوا أحلامهم وفرصهم ومستقبلهم ، حتى باتت الهجرة هي الخيار الوحيد أمامهم .
لا يمكن لسوريا أن تنهض دون شبابها ، ولا يمكن بناء اقتصاد دون طاقات جديدة ، ولا يمكن الحديث عن مستقبل دون جيل قادر على قيادته .
الحل يبدأ بخلق فرص عمل ، وتحفيز المشاريع الناشئة ، والثقة بهذا الجيل بأنه قادر على بناء وقيادة وطنه .
بين التحديات والفرص : القرار اليوم بيد الحكومة
نعم سوريا تواجه تحديات هائلة ، لكن هذا ليس قدرًا محتومًا .
القرار الأن بيد الإدارة الإنتقالية ، بيد من يملك السلطة الأن ، والقدرة على التغيير .
التحديات لن تحل نفسها ، والفرص لن تأتي إذا لم يتم استغلالها .
إما أن تكون هذه المرحلة بداية لعهد مزدهر ومستقر يتم فيه تصحيح الأخطاء السابقة ، واتخاذ القرارات الصعبة ، وإعادة بناء الدولة على أسس سليمة ، أو أن تبقى سوريا عالقة في دائرة الأزمات ، بلا أفق ولا حلول .
لقد صبر السوريون بما فيه الكفاية ، وحان الوقت لكي يحصلوا على دولة تستحق تضحياتهم ، دولة قوية ، عادلة ، مستقرة ، وقادرة على منحهم حياة كريمة ومستقبلًا آمنًا .
بقلم : أحمد السالم