فراس علاوي
المعروف تاريخياً أنه وقبل مائة عام من هذا التاريخ وتحديداً عام1916، احتضنت دير الزور الآلاف من المسيحيين الأرمن فيما سمي حينها مجازر الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى والتي شهدت هروباً كبيراً للأرمن، إذ كانت دير الزور إحدى المناطق التي احتضنتهم.
أطفال الأرمن الهاربون
اختلط هؤلاء بالمجتمع الديري حتى أنّ بعضهم لا يعرف من تاريخه إلا لون بشرته أو عينيه، حتى وصل الأمر بهم للانتساب للقبائل المحلية وبقي بعضهم يحمل اسم الأرمني بعد مرور عشرات السنين وهم الآن لا يتميزون عن المجتمع بل اندمجوا بشكل كامل، ” أبو محمود ” هاجر والد جدّه أثناء هروب الأرمن ووصل وحيداً إلى هذه القرية، وعمل عند أحد مشايخها في الزراعة ومن ثم بعد مرور الوقت تعلم جدّه اللغة بشكل جيد وأصبح يعامل وكأنه من أهل المنطقة، ثم ما لبث حتى أن تزّوج من ابنة أحد رجال القرية وبعد مرور السنين أصبح يملك أرضاً خاصة به.
يقول:
نحن الآن أكثر من عشرة أسر من سلالته لا نعرف إلاّ أننا أبناء هذه القرية , انصهرنا فيها وأصبح لنا عائلات وعلاقات اجتماعية ورغم أنّ البعض من كبار السن لازالوا ينادون عائلتنا بالأرمني، إلا أننا أصبحنا من أهل المنطقة ونحن الآن نعتبر من أحد مكونات المنطقة، نحمل نفس الأسماء ولنا نفس العادات وندين بالديانة الإسلامية، حالة هذه العائلة تكررت في أكثر من قرية في دير الزور، وريفها وبعضهم اندمج بشكل كلي حتى كنيته أخذها من العائلة التي استقبلته.
المسيحيون الديريون
بعض الأسر بقيت تحمل ديانتها وأسماءها وعاداتها، خاصة تلك التي وصلت كعائلات وليس كأفراد وأطفال صغار وهناك عائلات كبيرة معروفة بدير الزور أنهم أرمن، تركّز وجود العائلات المسيحية في دير الزور المدينة مع وجود عائلات قليلة في البوكمال وبعض الأفراد في مدينة الميادين بسبب طبيعة عملهم , الناشط الإعلامي ” يامن الحكيم ” أحد أبناء العائلات المسيحية في دير الزور نشط كإعلامي وعرف باسم يامن الحكيم، يقول:
يوجد في دير الزور حوالي ال85 بيت من السريان، و 85 تقريباً بيت من طوائف ثانية كلدان وأرمن و رومان ” , كما أن العدد الكلي يتراوح تقريباً مابين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف على الأكثر ، ويتوزعون بشكل رئيسي في أحياء القصور و الرشدية خصوصاً شارع سينما فؤاد.
يعمل معظم مسيحيو ديرالزور في الحرف وهم مجتمع متكامل ومرتبط ببعضه البعض، فمحلات صياغة الذهب أغلبها تعود لهم، وكذلك حرف صياغة الفضة وتصليح الساعات والأشياء الدقيقة، كذلك كانت ورشات تصليح السيارات أغلبها تعود ملكيتها لهم إضافة إلى أنهم منخرطون في الحياة العامة فمنهم المهندس والطبيب وتبقى لهم سمتهم الخاصة ، في مدينة دير الزور لم تكن تميزهم عن غيرهم فهم يلبسون ذات اللباس، ولهم ذات العادات بل حتى أنّ قسماً من نساءهم كنّ يغطينَ رأسهنّ، تماشياً مع عادات أهالي الدير وقد لا يميز الأطفال منهم إن كانوا مسيحيين أو لا بسبب اندماجهم الكامل في المجتمع.
المسيحيون في الثورة
لم يكن هناك تمييز بين المسيحيين والمسلمين على مدى عقود، وذلك بسبب العلاقات الاجتماعية التي يتميز بها أهل الدير من ضيافة وكرم كما أن مسيحييها هم من أبناء المدينة، ولم يسجل التاريخ أي حالة اعتداء أو خلاف حصل بسبب الدين ، حيث يمارس المسيحيون طقوسهم الدينية في خمس كنائس هي ” كنيسة شهداء الأرمن ” وقد اعترف بها الفاتيكان في تسعينيات القرن الماضي، كذلك كنيسة ” كنيسة السريان الأرثوذكس ” و ” كنيسة السريان الكاثوليك ” و ” كنيسة الأرمن الكاثوليك ” و ” كنيسة اللاتين الكبوشية ” ، كانت المشاركة المسيحية خجولة عند انطلاق الثورة ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها: قلة عددهم بالمدينة والذي يصل لحدود 1% من عدد سكان المدينة ، وخروج المظاهرات من المساجد أعطاها صبغة دينية ربما جعلت البعض يحجمون، وتأثير بعض الموالين لنظام الأسد على أقاربهم وتسويق فكرة أن النظام حامي الأقليات(خاصة ممن كانوا يتعاملون مع دوائر الأسد ولهم علاقات معه حيث عملوا على دعمه والوقوف في وجه ناشطي الثورة).
كل هذا لم يمنع بعض الشباب المثقف من الانخراط في الثورة وكان الجانب الإعلامي هو الأكثر ظهوراً ، فظهر بينهم ناشطين وناشطات إعلاميات أبرزهم الناشط المعروف في ديرالزور ” يامن الحكيم ” والذي يقول:
لم يشهد المسيحيون أي انشقاق من الجيش باستثناء شاب يدعى ميشيل ، وهو انشق بدير الزور وأصله من حلب أو إدلب على ما أذكر.
سياسة الحياد التي اتبعها المسيحيين لم تبعدهم عن بطش قوات الأسد التي لم تميز في استهداف الأحياء الآمنة بين أحيائهم والأحياء الأخرى، ومع سيطرة الجيش الحر على قسم كبير من المدينة، ازدادت هجمة قوات الأسد الشرسة على المدينة فقامت بقصفها دون هوادة مما دفع أهلها لتركها، وكان مسيحيو الدير مثلهم مثل باقي أهلها تركوا بيوتهم وأحلامهم ومواطن ذكرياتهم وتعب سنينهم وشقاءها، متوجهين إلى المجهول، باحثين عن الأمان , كانت وجهتهم مدينة الحسكة أو دمشق وكثير منهم هجروا الوطن إلى دول أوربا وأمريكا.
ومع ذلك فقد بقيت عدة عائلات في المدينة لم تهجرها رغم القصف العنيف حالهم حال من بقي فيها كما نزحت إلى داخل المدينة حيث يسيطر الجيش الحر وقد تعايشت هذه العائلات مع فصائل الجيش الحر بل وتعاون قسم منها معهم فقد كانت تأوي مجموعة منهم وتقدم لهم الطعام والشراب أبناء الجيش الحر الذين هم أبناء المدينة ذاتها لم يروا فرقاً بين أهل مدينتهم ولم يصنفوهم على أي أساس ديني أو عرقي، كان التصنيف الوحيد هو إما أن تكون مع الثورة أو ضدها، حتى لو التزمت الحياد فأنت من هذه المدينة يصيبك ما يصيبها.
بدخول ” جبهة النصرة ” ذات التوجه الإسلامي والذي يوصف بالمتشدد على مدينة دير الزور، إنتاب الخوف أبناء دير الزور من المسيحيين من أن تتم معاملتهم بسوء لكن مقاتلي الجبهة وهم في غالبيتهم من أبناء المدينة أيضاً، كانوا مثالا للتعايش والتسامح رغم العدد القليل الذي بقي منهم كانت قوات الأسد قد استولى على الكنائس ، واستهدفها كما استهدف المساجد فتعرضت للتدمير الشيء الوحيد، الذي منعته الجبهة هو محلات بيع المشروبات الروح وحطمتها واستولت عليها.
داعش وتبخرهم من الدير
كان للحصار الخانق الذي مارسه نظام الأسد على الأحياء المحررة والقصف الشديد هو السبب الأقوى لأن يترك أهل الدير مدينتهم، فلم يبقى من مسيحييها أحد , حيث ترافق هذا القصف مع دخول تنظيم داعش إلى محافظة الرقة وسيطرته التامة عليها وفرض أتاوات على أهلها، حيث بدأ التنظيم بسياسة قتل معارضيه واعتقالهم وفرض غرامات وإتاوات عليهم تحت ذرائع مختلفة.
كان المسيحيون في محافظة الرقة قد تلقوا تهديدات من التنظيم حيث خيروا بين أمرين :
الأول : إما أن يغادروا المدينة وبالتالي تصبح بيوتهم ومحلاتهم وجميع أملاكهم تحت سيطرة التنظيم كأملاك دولة
الثاني : أن يدفعوا جزيةً ويعاملوا كأهل ذمة وبذلك يبقون في مناطقهم آمنين .
لكن أي أمان والقصف يطال كافة المدنيين والقذائف لا تميز بين دين ودين وجنس وجنس ،هذه الأخبار المتواترة من الرقة واقتراب التنظيم من السيطرة على محافظة دير الزور، جعل آخر أمل لمن بقي من مسيحيي دير الزور بالبقاء يتبخّر ، حيث بقيت عائلة واحدة في حي القصور لم تستطع الخروج بسبب الحصار حتى هذا الوقت وهذا الحي يخضع لسيطرة قوات الأسد .
نشر..في ديرالزور 24