الجمعة , يونيو 6 2025
أخبار عاجلة
الرئيسية / مقال / التبعية وصمت الحق: صراع الضمير تحت سطوة الولاء تركة النظام البائد

التبعية وصمت الحق: صراع الضمير تحت سطوة الولاء تركة النظام البائد

التبعية وصمت الحق: صراع الضمير تحت سطوة الولاء

تركة النظام البائد

سعد الأطرش

 

في المجتمعات التي يتفشى فيها الفساد وتغيب فيها الشفافية، لا يكون الخطر الأكبر في الأفعال الفاسدة بحد ذاتها، بل في الصمت عنها، وفي تواطؤ غير مباشر يصنعه الخوف أو الولاء الأعمى. إن أخطر ما يواجه صوت الحق ليس قوة الفاسد، بل تبعية الصالحين التي تمنعهم من النطق بالحقيقة، خشية على موقع أو مصلحة أو ولاء شخصي.

وهنا تبدأ معركة خفية في أعماق النفس: صراع بين ما يمليه الضمير، وما تفرضه حسابات التبعية.

 

أولًا: التبعية… ما وراء المفهوم السطحي

ليست التبعية مجرد ارتباط وظيفي بشخص أو مؤسسة، بل هي حالة نفسية واجتماعية تجعل الإنسان يسلّم إرادته وقراره وموقفه لشخص آخر أو جهة معينة، إما خوفًا من فقدان الامتيازات أو طمعًا في رضا المتبوع، وتلبس التبعية أشكالًا متعددة، فقد تكون لحزب سياسي، أو لطائفة، أو لزعيم، أو حتى لمجموعة اجتماعية.

في بيئة كهذه، يصبح الحق نسبيًّا والمعايير خاضعة للمصلحة، ويبدأ التابع في تبرير أفعال المتبوع، حتى لو خالفت القيم التي يؤمن بها في الأصل.

وهنا يكمن الخطر: عندما تُخرس القناعة لحساب الولاء، ويتحول الصمت إلى فضيلة مغشوشة، والتبعية هنا ليست ضعفًا فحسب، بل مرض اجتماعي يسري في الأفراد حتى يشلّ قدرتهم على التفكير المستقل.

 

ثانيًا: كيف يصمت الإنسان عن الحق؟

لا يصمت الناس عن الحق من فراغ، بل نتيجة ظروف ضاغطة أو قرارات واعية، فقد يصمت الإنسان:

خوفًا من فقدان وظيفة أو منصب.

خشية من خسارة علاقاته أو دعم جماعته.

بسبب تهديد مباشر أو إيحاء بالانتقام.

أو تحت تأثير ثقافة تطبع التبعية وتشيطن المعارضة.

وفي كل هذه الحالات، يكون الضمير في حالة استنزاف دائم، يعيش فيها صاحبه بين ما يؤمن به وما يفعله، بين ما يجب أن يُقال وما لا يُقال، وقد يصل الصمت أحيانًا إلى المشاركة غير المباشرة في الفساد، حين يصبح التابع شاهد زور بصمته، أو سندًا للفاسد بعدم معارضته، والأسوأ من ذلك، أن يصير هذا الصمت عادة وتصبح مقاومة الفساد استثناءً لا قاعدة.

 

ثالثًا: الولاء والحق

الولاء قيمة إنسانية مشروعة إذا ما اقترنت بالعدل والحق، فالولاء الحقيقي لا يُبرر الخطأ، بل يقتضي النصح والإصلاح والمصارحة. أما الولاء الأعمى، فهو ما يجعل التابع يغض الطرف عن التجاوزات، بل ويدافع عنها أحيانًا باسم الانتماء أو الثقة.

وتحت هذا النوع من الولاء، يُختزل الضمير إلى مجرد شعور داخلي لا ينعكس على الواقع، وتُستبدل الشجاعة بالتحفّظ، وتصبح المواقف رهينة الحسابات الشخصية، في مثل هذه الحالات، لا يضعف المجتمع فقط، بل يُعاد تشكيل ضميره الجمعي ليقبل الظلم، ويعادي من يكشفه، وكلما طال الصمت، ترسّخ الاستبداد، وتحوّل الولاء إلى عبودية فكرية.

 

رابعًا: التبعية والفساد… علاقة متبادلة

الفساد لا يعيش في فراغ، بل يحتاج إلى شبكة من الصمت والتبرير والدفاع. وهذه الشبكة تصنعها التبعية. فالفاسد لا يكتفي بارتكاب الخطأ، بل يحتاج إلى محيط صامت أو مدافع عنه ليستمر. وكلما زاد عدد التابعين الذين يصمتون أو يبررون، كلما شعر الفاسد بمزيد من الأمان.

وهكذا، تصبح التبعية بيئة حاضنة للفساد، بل وأحد أبرز محركاته، وهي ليست مجرد غياب للمعارضة، بل تعطيل لمنظومة الضبط الأخلاقي داخل المجتمع، فحين يصمت العقلاء، ويتردد الشرفاء، يتقدّم الفاسدون بلا مقاومة. وعندما يصير الفساد محميًّا بتبعيات اجتماعية أو دينية أو حزبية، فإنه يتحول من مجرد خلل إلى منظومة قائمة بذاتها.

 

خامسًا: الضمير… آخر جبهات المقاومة

رغم كل أشكال الضغط والخوف، يبقى الضمير هو الحصن الأخير في وجه الانحدار، الضمير هو ذلك الصوت الداخلي الذي لا يُشترى ولا يُباع، ولا يسكت طويلًا، قد يصمت الإنسان مرغمًا، لكنه لا يرتاح، ويظل داخله ممزقًا بين صمته وما يجب عليه أن يقوله.

والتاريخ مليء بأمثلة لأفراد انتصروا لضميرهم على حساب كل شيء، فكانوا شموعًا في زمن الظلمة، وشرارات أولى في حراك الإصلاح. وهؤلاء لم يكونوا معصومين من الخوف أو المعاناة، لكنهم اختاروا أن لا يقتلوا ضمائرهم. بل إن بعضهم دفع حياته ثمنًا لموقفه، لكنه بقي خالدًا في ذاكرة الشعوب، بينما نُسي من عاشوا بالتبعية والذل.

 

سادسًا: كسر دائرة التبعية

لا يمكن أن نواجه الفساد دون أن نواجه التبعية التي تحميه، وكسر هذه الدائرة لا يكون فقط بنقد الفاسدين، بل أيضًا بإحياء قيمة المسؤولية الفردية، وتشجيع الناس على التفكير المستقل، وخلق بيئة تُكرّم من يقول الحق، لا من يُجامل السلطة أو الجماعة.

كما يتطلب الأمر مؤسسات تحمي حرية التعبير، وتؤمّن لمن يفضح الفساد منبرًا آمنًا. فالثمن الذي يدفعه الصادقون اليوم، يجب أن يكون لبنة في بناء مجتمع يحترم الشجاعة ويحتقر التبعية العمياء. ويجب على المنابر الثقافية والدينية والإعلامية أن تؤدي دورها في كسر هذا الصمت، وتحرير الأفراد من خوفهم، وتعزيز ثقافة النقد البنّاء والوقوف في وجه الظلم.

شاهد أيضاً

صراع الهويات في عصر العولمة 

صراع الهويات في عصر العولمة  يزن المحمد الهوية كساحة صراع في عالم يتسارع فيه اندماج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة − 2 =