البناء الصحيح لسوريا المستقبل
أحمد السالم
في لحظة فارقة من الزمن، تقف سوريا المدمرة على أعتاب منعطف وجودي، كمن تنهض من بين ركام زلزالٍ دام سنوات طويلة، تنفض غبار الحرب عن كتفيها، وترنو إلى الأفق بعينٍ نصفها أمل، ونصفها حذر. لم تعد المرحلة ترفاً سياسياً ولا محض شعارات تطلق في الهواء، بل باتت الحاجة إلى البناء الصحيح ضرورة حتمية، لا مكان فيها للمجاملات ولا للترقيع. فإعادة الإعمار ليست إسمنتاً وحجارة فحسب، بل رؤية تمتد جذورها في عمق الاقتصاد والبيئة والتنمية المستدامة.
إن البداية دائماً لا تكون من السطح، بل من الأساس. وكما لا يمكن بناء سقف على الفراغ، لا يمكن تشييد سوريا الجديدة دون أعمدة صلبة، هي المشاريع القومية الكبرى. تلك التي تعيد هيكلة الاقتصاد، وتغرس الأمل في قلوب الناس، وتُفعّل طاقات الوطن العطلة.
وأول هذه الأعمدة، مشروع تدوير المخلفات، ذاك الذي نراه يتألق في التجربتين الهولندية والألمانية، حيث لا تترك الزجاجة البلاستيكية لمصيرها في مكب النفايات، بل تعاد لتدور في عجلة الاقتصاد الأخضر. سوريا اليوم تولّد آلاف الأطنان من النفايات يومياً، وهي إن تُركت، تتحول إلى عبء بيئي وصحي خطير. أما إن أُحسن تدويرها، فهي ذهب في صورة أخرى. إنشاء منظومة تدوير شاملة —بتكلفة تقديرية تبدأ من 100 إلى 150 مليون دولار كبنية تحتية متكاملة— كفيل بتحويل النفايات إلى مواد أولية لصناعات محلية (بلاستيك، معادن، ورق، أسمدة عضوية)، وبتشغيل آلاف العمال، وتوفير الطاقة، وتقليل الاعتماد على الواردات. ناهيك عن الأثر البيئي العظيم من تقليص التلوث والانبعاثات.
ثم نأتي إلى مشروع التشجير الوطني، ليس كحملة موسمية لزرع بعض الأشجار في ربيعٍ عابر، بل كمشروع قومي يعيد لسوريا لونها الأخضر. فلنزرع ملايين الأشجار في الريف والمدن، على أطراف الطرق، وفي الأراضي المتصحرة. يمكن الاستفادة من أنواع مثل النخيل والزيتون البري والأكاسيا والسدر والصفصاف الصحراوي وغيرها الكثير، لما لها من قدرة على النمو في أقسى أنواع المناخ وتحسين جودة الهواء والتربة. المشروع قد يبدأ بتكلفة بسيطة نسبياً، لكنه يدرّ أرباحاً بيئية واقتصادية هائلة، أهمها: الحد من التصحر، رفع منسوب المياه الجوفية، تحسين المناخ المحلي، وتحقيق عوائد مستقبلية من الأخشاب والزيوت والثمار.
أما الطاقة، فهي شريان السيادة الحديثة. ومشروع الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح في سوريا لم يعد خياراً تجميلياً، بل هو ضرورة في بلد يغفو ويصحو على انقطاعات الكهرباء. الشمس التي تحرق جباه المارة في تموز يمكن أن تتحول إلى طاقة نظيفة مستدامة. بناء محطات طاقة شمسية في الصحراء السورية أو على أسطح المباني، باستثمارات تبدأ من 100 إلى 200 مليون دولار، يمكن أن يخفف الضغط عن شبكة الكهرباء التقليدية، ويولد آلاف الميغاواط، ويفتح باب التصدير للطاقة مستقبلاً. والمكسب البيئي لا يقل أهمية أيضاً، فهو سيقلل الانبعاثات، ويحقق التزامات سوريا في اتفاقيات المناخ العالمية.
ومن غير الممكن الحديث عن مستقبل دون طرق تؤدي إليه. فمشروع تطوير شبكة النقل بات من أساسيات الدولة الحديثة. لا يكفي ترميم الطرق القديمة، فنحن بحاجة إلى توسعة شاملة للطرق الرئيسية، وبناء شبكة سكك حديدية عصرية تربط الشمال بالجنوب، والشرق بالغرب. بل يجب أن نعيد إحياء النقل النهري، فنهر الفرات والعاصي ليسا مجرد ذكريات في الكتب، بل فرص لوجستية واقتصادية وسياحية. تصور قطاراً سريعاً يربط دمشق بديرالزور، أو قارباً نهرياً ينقل السائحين وسط الطبيعة… إنها ليست أحلاماً، بل مشاريع تنموية تخلق آلاف الوظائف، وتقلل تكاليف النقل، وتحفّز الصناعات والتجارة والسياحة.
وأخيراً، لا تستقيم سوريا من دون مدن صناعية نابضة بالحياة. في كل محافظة، نحتاج إلى منطقة صناعية حديثة، مجهزة بالبنية التحتية الذكية، وتسهيلات حكومية تحفّز المستثمرين المحليين والأجانب. آن لنا أن نستثمر في معامل الإلكترونيات، والأدوية، والسيارات، ونجعل من سوريا مركزاً صناعياً وتكنولوجياً إقليمياً وعالمياً أيضاً. هذا النوع من المشاريع قادر على امتصاص البطالة، وتكوين طبقة عاملة مؤهلة، وزيادة الصادرات، ورفع الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملموس.
إن ما طُرح هنا ليس رفاهية، ولا ترفاً فكرياً. إنها مرحلة أولى من البناء الصحيح، الأساسات التي لا يمكن بدونها أن نرفع طابقاً واحداً من طوابق “سوريا المستقبل”. فمن ذا الذي يزرع أرضاً دون بذور؟ أو يبني سقفاً بلا أعمدة؟ إن هذه المشاريع تمثل الأساس الصحيح التي نستند إليها في إعادة إعمار سوريا الجديدة والمرحلة التالية، التي سأكتب عنها لاحقاً إن وجدت أذن تسمع وعقل يعي ولسان يسأل، ستكون بمثابة الطوابق العليا: إصلاح التعليم، وبناء المدن الذكية، وتمكين الشباب، وتحقيق العدالة الاقتصادية.
لكن لنبدأ من هنا. من الأرض، من الأساس. لأن من أراد أن يشيد برجاً، عليه أن يغرس جذوره عميقاً.