الإعلام بين التعتيم على جرائم النظام السوري والتضليل في مرحلة ما بعد السقوط
سعد الأطرش
لطالما كان الإعلام سلاحًا ذا حدين في الأزمات والصراعات، فهو قادر إما على كشف الحقيقة أو دفنها تحت ركام التضليل والمصالح السياسية. في الحالة السورية، لعب الإعلام دورًا خطيرًا، حيث ساهم لسنوات في التعتيم على جرائم النظام السوري، ثم دخل بعد سقوطه في دوامة جديدة من التضليل والتكذيب، مما أدى إلى تعقيد المشهد وتشويه الحقيقة أمام الرأي العام المحلي والدولي.
التعتيم الإعلامي على جرائم النظام السوري:
على مدار عقود، نجح النظام السوري في فرض رقابة صارمة على الإعلام، مما سمح له بارتكاب انتهاكات جسيمة بعيدًا عن المساءلة. فقد فرض سيطرة كاملة على وسائل الإعلام المحلية، حيث كانت الصحف والقنوات التلفزيونية مجرد أبواق للدعاية الرسمية، تروج لرواية النظام وتخفي أي أصوات معارضة. لم يكن هناك مجال لحرية التعبير أو الصحافة المستقلة، حيث تعرض الصحفيون المستقلون للاعتقال أو الاختفاء القسري.
من الأمثلة على التعتيم الإعلامي:
مجزرة حماة (1982): ظل النظام السوري لعقود ينكر أو يقلل من حجم المجزرة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، حيث كانت وسائل الإعلام المحلية تتجنب أي ذكر لها، ولم يسمح للصحفيين بالتحقيق فيها.
صور قيصر (2014): عند تسريب آلاف الصور التي توثق تعذيب المعتقلين في سجون النظام، حاول الإعلام السوري التابع للنظام الساقط ، التقليل من مصداقيتها، مدعيًا أنها “مفبركة” أو “معدلة”، رغم تأكيد منظمات حقوقية دولية على صحتها.
استخدام الأسلحة الكيميائية: في مجازر مثل الغوطة (2013) وخان شيخون (2017)، حاول الإعلام الموالي للنظام إنكار استخدام الأسلحة الكيميائية، رغم تقارير الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي أكدت مسؤولية النظام عن هذه الهجمات.
كما ساهمت بعض الوسائل الإعلامية الدولية في التعتيم على جرائم النظام، إما بسبب حسابات سياسية أو بسبب تبنيها خطابًا “محايدًا” يتجنب إدانة النظام بوضوح. على سبيل المثال، كانت بعض التقارير الغربية تصف الصراع في سوريا بـ”الحرب الأهلية” دون التركيز على الجرائم الممنهجة للنظام ضد المدنيين، ورميه للبراميل على الأطفال والمدنيين العزل، مما ساهم في تمييع الحقائق وإعطاء انطباع بأن جميع الأطراف متساوية في الانتهاكات.
في المقابل، استخدم النظام بروباغندا مكثفة لتشويه الثورة السورية، مصورًا الاحتجاجات على أنها مؤامرة خارجية ومتهمًا المعارضة بالإرهاب والتطرف. لم يكن ذلك فقط عبر الإعلام الرسمي، بل أيضًا عبر شبكة من الصحف والمواقع الإلكترونية التي تمولها الدولة أو حلفاؤها، والتي عملت على نشر روايات مضللة، مثل الادعاء بأن “الخوذ البيضاء” وهي منظمة إنسانية تعمل في الإنقاذ – مجرد “واجهة للإرهابيين”.
التضليل الإعلامي بعد سقوط النظام في بعض المناطق:
مع تراجع سيطرة النظام أو سقوطه في مناطق عديدة، لم يتحسن الواقع الإعلامي، بل دخل في مرحلة جديدة من الفوضى والتضليل. فقد ظهرت عشرات الوسائل الإعلامية الجديدة، بعضها مستقل، لكنها في معظمها كانت خاضعة لأجندات سياسية أو خارجية، ما جعل الحقيقة تضيع وسط سيل من الأخبار المتضاربة.
ومن تلك الأمثلة:
التلاعب بالمجازر الموثقة: رغم وجود آلاف الأدلة المصورة والشهادات الحية على مجازر النظام، انتشرت حملات إعلامية تزعم أن بعض المجازر كانت “مفبركة” أو مبالغ فيها. على سبيل المثال، ادعت بعض وسائل الإعلام أن فيديوهات قصف المدنيين في إدلب “مصطنعة” رغم توثيقها من قبل جهات مستقلة.
إعادة تلميع صورة النظام: ظهرت محاولات لإعادة تأهيل النظام السابق، إما من خلال التقليل من حجم جرائمه أو من خلال الادعاء بأنه كان “أهون الشرين” مقارنة بالفوضى الحالية. على سبيل المثال، انتشرت مقالات وتقارير تزعم أن الوضع الأمني والاقتصادي كان “أفضل” في ظل حكم النظام، متجاهلة الأسباب الحقيقية لانهيار الدولة مثل الفساد والاستبداد.
تضارب الروايات الإعلامية بين الفصائل المسلحة: في بعض المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، نشأت قنوات إعلامية تتبع الفصائل المختلفة، وغالبًا ما تبنت خطابات متناقضة. فكل فصيل حاول تشويه خصومه وشيطنتهم، مما جعل الجمهور أمام حالة من الفوضى الإعلامية التي يصعب فيها تمييز الحقيقة من الدعاية.
إضافة إلى ذلك، أصبحت وسائل الإعلام جزءًا من الصراع السياسي والعسكري بين القوى المتنافسة، حيث لجأت بعض الأطراف إلى نشر الأكاذيب لتشويه خصومها، واستخدمت الدول الإقليمية والدولية الإعلام كأداة لخدمة مصالحها. فعلى سبيل المثال، كانت بعض وسائل الإعلام الإقليمية تغطي الأحداث السورية بناءً على موقف حكوماتها.
أهمية الإعلام الحر في إعادة بناء سوريا:
اليوم، بات واضحًا أن معركة الإعلام في سوريا لا تقل أهمية عن المعارك العسكرية والسياسية. فإعادة بناء دولة قائمة على العدالة والمحاسبة تحتاج إلى إعلام حر ومستقل، قادر على نقل الحقائق كما هي دون تلاعب أو تسييس. لذا، فإن مواجهة التزييف الإعلامي تتطلب:
1. دعم الصحافة المهنية: يجب تعزيز وجود صحفيين مستقلين قادرين على تغطية الأحداث بموضوعية بعيدًا عن الأجندات السياسية.
2. تعزيز ثقافة التحقق من الأخبار: عبر نشر الوعي بأهمية المصادر الموثوقة والتحقق من المعلومات قبل تصديقها أو نشرها.
3. التصدي لمحاولات إعادة إنتاج الروايات المضللة: عبر تسليط الضوء على الوثائق والأدلة التي تثبت الجرائم والانتهاكات، وعدم السماح بتزوير التاريخ.
فبدون إعلام مسؤول، ستبقى الحقيقة ضائعة وسط الضجيج، وسيظل الماضي يعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة. إن معركة الإعلام اليوم هي معركة الذاكرة والعدالة، ولا يمكن كسبها إلا بالتمسك بالحقيقة في وجه التضليل.