أنس المحمد
شهدت الأسابيع الأخيرة ذروة التصعيد المتوقع على الجبهة اللبنانية بين حزب الله وإسرائيل.
بدأ هذا التصعيد بسلسلة اختراقات أمنية يومي الثامن عشر والتاسع عشر من أيلول الفائت، بتفجير آلاف الأجهزة اللاسلكية (بيجر، الووكي توكي) لأعضاء الحزب؛ ضرب هذا الاختراق صلب استخبارات حزب الله وخلّف آلاف الجرحى والقتلى وأحدث تشتت عام في صفوف الحزب ووسائل التواصل بين أجهزته الأمنية والعسكرية والسياسية.
ثم ظهر الأمين العام للحزب حسن نصر الله في آخر خطاب له، معترفاً بحجم الضربة والاختراق قائلاً: نحن تلقينا ضربة كبيرة وقاسية.
تلقفت اسرائيل هذه الرسائل ولم تمهل حزب الله إلا بضعة أيام حتى بدأت بعملية عسكرية ضده.
بدا رد حزب الله في اليومين الأولين خجولاً للغاية، لكنه ومنذ اليوم الثالث بدأت تتكشف هشاشة البنية الداخلية للحزب بعد سلسلة غارات واغتيالات نفذتها اسرائيل لقادات من الصف الأول والثاني لحزب الله وقيادات قوة الرضوان بأكملها ثم توجت اسرائيل ورقة نعي الحزب باغتيال أمينه العام وقائده “حسن نصر الله”.
إن سردية الحزب لأكثر من خمسة عشر عاماً وشعاره الطريق إلى القدس الذي مر بأغلب المدن السورية، يدفع إلى محاولة تفكيك ما جرى خلال خمسة أيام فقط من بدء ابعملية الإسرائيلية ضد الحزب والتي أطلق عليها لاحقاً “سهام الشمال”.
بدايةً: إن تهاوي قيادات الحزب من الصف الأول والثاني بهذه الطريقة لا يدل على اختراق استخباراتي فقط، بل على ما هو أبعد وأعمق من ذلك بكثير، فاغتيال كامل قيادات قوة الرضوان التي تعتبر قوات النخبة في حزب الله إضافة إلى ابراهيم عقيل وابراهيم قبيسي وغيرهم وصولاً إلى حسن نصر الله يُعني أن هيكلية حزب الله تم مسحها وجهاز استخباراته تم نسفه؛ لأن الخرق الاستخباراتي لا يمكن أن يتوسع ليشمل الهيكلية بأكملها؛ ففي غزة تم ملاحقة قيادات في حماس وتم تصفية عدة أسماء لكن وبالرغم من التفوق التكنولوجي الاسرائيلي وشبكة العملاء التي تمتلكها اسرائيل فإنها لم تستطع العثور على الأغلبية الساحقة من مختطفيها الذين اعتقلتهم حماس في السابع من اكتوبر الماضي؛ بالإضافة إلى فشلها في الوصول إلى المطلوب رقم واحد في حماس والمسؤول المباشر عن هجوم السابع اكتوبر وهو “يحيى السنوار”.
منذ نهاية حرب ٢٠٠٦ (آخر حرب خاضها حزب الله مع اسرائيل) لم يدخل الحزب في حرب أخرى في مناطقه بل خاض حرباً بالوكالة على الأراضي السورية وتحول إلى ميليشيا وجنوده إلى مرتزقة.
ورغم نجاحه بداية في بعض المعارك في حمص وحماة إلا أنه اصطدم بالشمال بكتائب لها ايديولوجيا وعقيدة أرغمته على التراجع، إلى أن جاء التدخل الروسي وحسم المعركة بالتفوق الجوي الكاسح.
تعاظم نفوذ حزب الله في سوريا وسيطر على مفاصل طريق الهلال الشيعي بمساعدة ميليشيات طائفية أخرى (عراقية وإيرانية وأفغانية) وربما ساهمت اجتماعات قياداته مع قادة النظام السوري والايراني في كشف معلومات ذهبية لإسرائيل المخترقة منذ عقود النظام الإيراني والسوري بشكل أكبر؛ على عكس حماس التي لم تخوض منذ تأسيسها حرباً خارج أراضيها ولا دخلت عسكرياً في صراع إلا مع اسرائيل فبقيت الهيكلية محمية والتكتيكات محصنة.
ثم إن ما حققه الحزب في سوريا بغطاء جوي روسي دفع الحزب وأعضاؤه وأنصاره إلى الخروج من حذرهم والثقة بأنفسهم وحزبهم إلى درجة كبيرة وهستيرية متناسين الغطاء الأهم (وهو الغطاء الإسرائيلي) عن تدخلهم في سوريا؛ اسرائيل التي غضت الطرف عن هذا التدخل كانت تعمل ليلاً نهاراً على اختراق منظومة الحزب المحصن في قاعدته الشعبية في الجنوب وتسهل انتشاره في سوريا وتمدده لتسهيل عملية القضاء عليه.
منذ بداية الحرب الاسرائيلية على غزة بعد هجوم حماس في السابع من اكتوبر على الأراضي المحتلة عمد حزب الله إلى المشاركة في المعركة تحت مسمى “جبهة الإسناد”.
حاول حزب الله عن طريق أمينه العام وأنصاره وأبواقه الضغط النفسي على اسرائيل والتأثير على المجتمع الاسرائيلي ولجأ إلى تكتيكات اعلامية وخطابات وإشارات مدروسة إلى درجة وصلت بأمينه العام السابق “حسن نصر الله ” إلى القيام بتصوير عدد من الفيديوهات التي تصور خاتمه أو عمامته وسط تهديد ووعيد لإسرائيل وكلمات غامضة” هذه الأمثلة وغيرها إن أخضعت للتحليل النفسي السياسي والعسكري فقد عبرت بحالة أو بآخرى عن مقدار الثقة بالنفس إلى درجة الغرور عند حزب الله وجمهوره.
هذه الأمثلة كثيرة ليس آخرها استعراض “الطائرات المسيرة والأنفاق والكهوف تحت الأرض”.
وبالعودة إلى النقطة الأهم فإن امكانية أن قرار قد اتخذ بشأن انهاء حزب الله تبقى مطروحة بقوة وأن سلسلة الاختراقات والاغتيالات مدروسة ومخطط لها بين جهات دولية واقليمية أهمها (ايران) ليس مستبعداً وهذا لا ينفي بالضرورة مسؤولية الحزب نفسه.
لأنه لو ثبت ذلك فالمسؤول الأول هو الحزب نفسه الذي صال وجال في سوريا وتغطرس في الساحة اللبنانية وانفرد بها لسنوات طويلة؛ وتاجر وقامر بالقضية الفلسطينية كما لم تفعل ميليشيا من قبل ففي سؤال وجه لأمينه العام السابق “حسن نصر الله ” عن توقعاته لمآلات الصراع مع اسرائيل قال بكل وهم: أنا أتوقع أنني سأصلي في الأقصى، ثم مات مخنوقاً تحت “سابع أرض”.
إن حزب الله قبل بداية الاختراقات الأمنية وبدء عملية “سهام الشمال” كيان نفخ بالهواء كالبالون وتضخم بالشعارات وتورط بين الدول حتى جاءت لحظة وأصبح عبئاً حتى على داعميه، تخلى عنه داعميه في أيادي اسرائيل التي أتقنت كيف تفجر ذلك الكيان الهوائي وتلك الشعارات الورقية.
وبالمقارنة مع حركة حماس وجناحها العسكري فإن الحركة نأت بنفسها عسكرياً (وهذا يحسب لها) عن صراعات عربية ولو أنها شاركت سياسياً في بعضها؛ لكن الجسم العسكري كما ذكرنا حافظ على هيكليته السرية وهذا أهم شرط لنجاح أي حركة عسكرية.
وهذا ما يجعلها إلى الآن تحتفظ بأكثر من ألف رهينة في مساحة جغرافية صغيرة وطبيعة جغرافية محدودة ولو زاودت حماس على اسرائيل في هذه فقط لاعتبر هذا انتصار أمني واستخباراتي كبير لحركة حماس على عكس حزب الله الذي جاءته الضربة الأولى والأهم أمنياً (البيجر واللاسلكي).
لقد حاول حزب الله في نهايات القرن الماضي خلق منظومة (مقاومة) نشأت من المظلومية والاضطهاد والتهميش ثم رفع شعارات قومية وراية فلسطين ففرض نفسه في وجدان الشارع العربي لكنه ومنذ بداية القرن الحالي ومع انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان بدأ الوهم السياسي يشده فاستدار إلى الساحة السياسية اللبنانية وعاث فيها خراباً (تعطيل، اغتيالات، اقتحام مدن) وبعد أن سيطر عليها بقوة السلاح كشف عن وجهه لحاضنته العربية (التي أوهمها بشعاراته القومية) فأمعن في دم السوريين واستباح الحدود والحرمات وفرض نفسه كقوة أمر واقع على العالم العربي.
دخل الحزب بسلاحه إلى بيروت والجبل ودخل إلى دمشق والمدن السورية لكن فشل أن يصل إلى أقرب نقطة في الجليل الأعلى في فلسطين.
لقد أُُستخدم الحزب لمدى عقدين لضرب العرب والأمة العربية وعندما لاحت معالم صفقات واتفاقيات جديدة في المنطقة كان أول قربان رموا به إلى الوكيل المباشر في المنطقة ومن وراءه.
شارك الحزب بتأسيس وترويج ما كان يعرف ب” وحدة الساحات ” ثم (نكز البالون بدبوس) فانهارت صفوفه وقياداته وأمينه العام في أسبوع واحد بانتظار ورقة النعي الرسمية للحزب.