الخميس , نوفمبر 21 2024

حجر صبحي

إياس غالب الرشيد:

قصة قصيرة

حجر صبحي

ــــــــــ 

كل شخص منَّا له علاقة مع مخلوق آخر، ربما تكون حميمةً، وربما علاقة اضطهاد.

 هناك أشخاص كلما شاهدوا كلباً أو قطةً ركلوها دونما رحمة.

 أنا شخصياً كلما رأيت حجراً تحركتُ دونما وعي والتقطتُهُ وضربتُهُ في أي اتجاه. 

 ويسجل التاريخ الشفوي لبلدتنا أنني كنت سبباً في تحطيم زجاج نوافذ الكثير من البيوت، وأنني أتحمل مسؤلية أغلب حالات شجِّ الرأس التي حصلت في بلدتنا في مرحلة الحرب الباردة.

في إحدى المرات كانت دورية الشرطة تطارد بائع دخان، وسقط منه أثناء المطاردة كروز دخان؛ فالتقطه وأخفيته.

 سمع بذلك صبحي، صاحب مطعم الفلافل، وكان يعرف شغفي بالحجارة، نادني إلى مطعمه، وأراني حجراً رخامياً ملوناً، وقال لي: هذا الحجر عمره ألف سنة، وكان يستخدمُه عنترة العبسي في المعارك، وقد صرع مئة فارس بهذا الحجر، وكان يضربه على رأس العدو؛ فيفلقه فلقتين ثم يعود إليه.

  لقد استغل صبحي صغر سني وجهلي؛ فبادلته كروز الدخان بالحجر الثمين الذي اكتشفت فيما بعد أنه قطعة رخام منتزعة من حمام.

لم يخطر في بالي على الإطلاق أن أعمل معلماً، وحتى صرت في السنة الرابعة من دراستي الجامعية لم أذكر أنني فكرت ماذا سأعمل في المستقبل، كان التفكير في هذا الموضوع ضَرْباً من الترف. 

 كنت أتابع فيلماً قديماً للمثل توفيق الدقن يعمل فيه مديراً لأعمال راقصة، كان العمل مريحاً جداً ومبهجاً، وفي آخر الليل تجلس في الكازينو، وتشرب الكونياك مع السُّكارى، وتستمتع باللحم الرخيص .. ولكن أنا لاأحب شرب الخمر،

 ولا أحب اللحم الرخيص؛ فصرفت النظر عن هذه الفكرة. 

 تابعت مرة مسلسل رأفت الهجان، كنت متحمساً جداً لأن أخدم بلدي، وأسافرإلى عمق الكيان الصهيوني البغيض، وأنقل لبلادي أسرار هؤلاء السفلة . آخ آخ …. المسألةُ حظوظ رأفت الهجان حظُّه يفلق الصخر، لو ينتبه إليَّ أيُّ ضابط مخابرات كبير ويجنِّدني.

 كلُّ شيء أرزاق في هذه الدنيا حتى عملك جاسوساً وطنياً صار أمراً مستحيلاً، لكن إذا كانت لديك هذه الموهبة، ولم تسنح فرصة لك، يمكن أن تعمل مخبراً لدى سلطات الأمر الواقع التي تحكم بلدك، وأنا لا أحب سلطات الأمر الواقع مثل بغضي للحم الرخيص. 

 فكرت مرة أن أتمشى أمام فروع المخابرات التي عند موقف التوجيه في دمشق، ثم أقف عند عمود الكهرباء وأُخرج سيكارة وأدخناها بطريقة تظهر فيها حنكتي؛ لربما يخرج ضابط لامع يعمل في فرع الجاسوسية،ويعجب بشخصيتي ويجنَّدني، ولكنني تراجعت، لأن صديقي عدنان ذكر لي مرة أنه أخطأ في المرور في هذا الشارع، حيث كان يريد الآخر، فشحطه الحرس، وظلوا يضربونه حتى ضَرَط، وساعتها دخلوا في هيستريا من الضحك، وطردوه شر طردة. 

 مرة فكرت أن أشتغل لصاً، ولكنْ لص بطريقة عصرية ليس مثل لصوص البطانيات وحبل الغسيل، تخيلت لو أنني أستطيع أن أحفر نفقا تحت بنك على مدار سنة كاملة، ثم أخرج من النفق إلى الخزنة، وأسرق كل المال الموجود، ولكن الموضوع فشل، لأنه يحتاج معدات حفر دقيقة مثل التي رأيتها في الفلم، وأنا لا أملك ثمن صندويشة فلافل. 

في الحقيقة لم يكن العيب فيَّ أو في الرغبة أو في وجود الأفكار … البلاد لم يكن فيها أي عمل، فيها حافظ الأسد فقط، والقيادة القطرية وأعضاء القيادة القومية الأساسيون والاحتياط.

  في أيامها كنت تجلس في أي مكان مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء العاطلين عن العمل والجميع يتبادلون السؤال نفسه والأجوبة نفسها. 

 هل وجدت عملا ؟ 

 لا والله لم أجد.

كان اللقاء الأول في فندق الميرديان، لم ندخل إلى عمق المرديان، بل بقينا في الصالة الرئيسية، وهنا سيتم امتحان المعلمين. كنت قد تخرجت في الجامعة، لم يكن لدي أيُّ أملٍ في النجاح في هذا الامتحان، ثم السفر إلى السعودية للعمل مدرساً، ولكنَّني أذكر أنَّني كنت حديث التخرج، وعادة ما يتشظَّى الشباب في مثل هذا السن معلوماتٍ لأنَّها ما زالت طازجة؛ أضف إلى ذلك نزعة الاستعراض… ولكن حدث أن نجحت في الامتحان.

 لم أكن سعيداً بعد خروجي من الميرديان، فلا يوجد أمامه أيُّ حجر لتقذفه في أي اتجاه. الإسرافُ في النظافة مثلُّ عمليةِ قص المعدةِ يأخذ جزءاً مهماً من الحياة، كيف سأعبِّرُ عن فرحي دون أحجار.  

نجحت في المسابقة، وصرت في تلك الديار مدرساً، وكان عليَّ مراجعة إدارة التعليم من أجل تسليم الشهادات الجامعية وإجراء امتحان شكلي، وبعد وصولي إلى إدارة التعليم وتسليم الأوراق قال لي الموظف المسؤول أوراقك ناقصة؟

  _ما النقص يا أستاذ ؟ 

  النقص في شهادة الخبرة، وشهادة دبلوم التأهيل التربوي. 

 في الحقيقة لم يكن عندي خبرة في التعليم، ولم يكن لدي شهادة دبلوم التأهيل التربوي، لم يكن عندي سوى الشهادة الجامعية ولسان ومحفوظات كثيرة جعلت المدير يسلو عن طلب الأوراق ساعة المقابلة، وهكذا صرت في أزمة.في مثل هذه الظروف أحتاج عدة أحجار لأرميها في الجهات الخمسة.

كان علي أن أغادر البلاد؛ فوجودي لم يعد قانونياً لأنَّ أوراقي ناقصة، ولكنَّ المدير تدخل وأجرى اتصالات على مستوى عالٍ لإبقائي والبحث عن حل آخرَ غير إنهاء العقد، فوصل القوم إلى قرار غريب، هو وضعي تحت وصاية لجنةٍ تربوية مؤلفة من عشرة موجهين لمدة ستة أشهر،وكلفوا بزيارتي كلَّ أسبوع، بالإضافة لتزويدي بكتب تربوية، وهكذا تحولتُ إلى معلم في الحاضنة مثل الطفل الذي ولد في الشهر الثامن. 

 لم يضايقني هذا الموضوع على الإطلاق، لا أدري لماذا! ربما لأنَّني أتحرك في مساحة واسعة جداً تبدأ من مدير أعمال راقصة فاشل إلى جاسوس لم يجنده أحد إلى سارق بنوك ليس لديه ثمن فأس. 

 بدأت التدريس، وبدأت الوفود من إدارة التعليم تأتي للحضور، وبعد كل حضور يدعوني الموجه للجلوس، ويبادرني بسؤال غريب؛ من مثل: ماذا تعرف عن نظرية التطهير عند أرسطو. 

أبدأ الكلام بكل طيبة، وأنا أظن أن هؤلاء فعلاً قرروا وضعي في الحاضنة لمساعدتي، ولقلَّة خبرتي في الحياة لم أستنتج ساعتها أنهم أنزلوني إلى قاع الجب كي يهيلوا عليَّ التراب. 

بدأت بالحديث عن أرسطو ونظرية المحاكاة والتطهير حتى بدأت عينا الرجل تنوسان كالأهبل ساعتها اكتشفت أنه لا يعرف أي شيء في الموضوع، وإنَّما تم تزويده بهذا السؤال من جهات أشد لؤماً؛ فقد أردا أن يسألني، ثم أصمت؛ فيسجل في تقريره لا يعرف. 

  مر أسبوع فجاء آخر، ودخل الحصةَ، وخرج وجلسنا سوياً، وسألني هل درستم الأدب المقارن، قلت: بلى .. قال احكِ لي عن قصة حي بن يقظان وعلاقتها بروبنسون كروزو لدانييل ديفو .. يا الله كم كنت سعيداً بهذا السؤال .. يبدو أن العلم والمعرفة متقدمان في هذه البلاد.

بدأت الكلام .. وذهبت العيان في النَّوسان نفسه الذي ذهب فيه صاحبه السابق.

ظلت هذه الحالة عدة أشهر، ولم أشعر بالضجر كانت منصة أمارس فيها استعراضي الثقافي، حيث لا جمهور لك، وهذه مناسبة لأن تخطب بين الناس. 

في أسابيع لاحقة بدأت الزيارة تتآكل . في الشهر مرة واحدة فقط . لقد صارت يومياتي مملة أريد موجها يسألني عن رسالة الغفران والكوميديا الألهية .. عن أفلاطون .. ماهذا الملل! 

 انتهت الشهور الستة؛ فجاء خطاب من وزارة التربية إلى المدرسة يحدد يوماً معلوماً أُكلَّف فيه بتقديم درس في التعبير للصف السابع، وسيحضر الحصة عشرة موجهين وأستاذ من كلية التربية. 

 تحمست للمسألة، واخترت موضوعاً (زيارة موقع أثري)، ثم طفت على الطلاب الذين أدرسهم في الشعب الثلاثة طالباً من كل من زار موقعاً أثرياً وجلب تذكاراً أو صورة من هناك أن يزودني بها لاستخدمها في هذه الحصة ،ولأن أهلَ هذه البلاد في نعيم؛ فالسفر ديدنهم، فما إن جاء اليوم الثاني حتى تجمَّعت على طاولتي صورٌ من برج إيفل، وتاج محل، وبركان فيزوف، وصور من متاحف إيطالية وفرنسة وألمانية وأمريكيا.

 لقد كان حماس الطلاب مبهراً حتى إن طالباً طلب العذر لأنَّه لم يجلب كما جلب زملاؤه، وحتى لا أظنَّ أنَّ الشحَّ مستكنٌ فيه وفي عائلته أقسم ليحضرنَّ ناقةً، وعندما قلت له: الموضوع ليس إلزامياً نريد نماذج لعرضها في الحصة، وسنعيدها لأصحابها، والمطلوب شيء أثري قديم، والناقة كائن حي، أصرَّ على جلب سيارة جده القديمة المتعطلة، وعندما يئس مني طلب مني أن أقبل إحضار (ضبٍّ) حتى نعرضه في الحصة حتى لا يتهمه زملاؤه بالشح ووعدته أنني سأقبل الضب وأعرضه في الحصة ولكنْ في سانحة أخرى. 

 صار على طاولتي عشرات الصور والتحف الأثرية، وصممت على الكمبيوتر بعض الشرائح لعرضها، وساعدنا مدرسو الفنون بتصميم أزياء تراثية تعود للعصر الجاهلي …لقد كانت الأجواءاحتفالية، وقد بذلت جهداً جباراً بمساعدة الزملاء لحشد أكبر عددٍ ممكنٍ من الوسائل الحسية المتنوعة. 

 كان يوم الثلاثاء هو يوم الزينة .. وسيطبق الدرس على طلاب الشعبة الأولى في الحصة الثالثة. 

 في اليوم نفسه كنت أدرِّس طلاب الشعب الثانية الحصة الأولى، وأثناء سير الحصة لمحت طالباً ممسكاً بحجر يضرب به ركبة زميله، وهذه حركات شقاوة جميلة عشتها وأحبها.

  اقتربت منه بهدوء، وأخذت الحجر، ووضعته في جيب الجاكيت، ثم انتهت الحصة. 

 بدأت الحصة الثالثة، وبدأ معها الكرنفال، والضيوف عشرة موجهين من الوزارة ومن إدارة التعليم وأستاذان من كلية التربية من الجامعة، وسيقرر هؤلاء النَّطاسيون جميعاً هل سيبقى هذا المعلم الشاب في الحاضنة أم أنَّ عوده استوى، أم سيعود إلى بلاده لأنَّ أوراقه غير كاملة. 

بدأت الحصة، وبدأت بعرض الكم الكبير من التفاصيل المتنوعة من المواقع الأثرية، وعرضنا على شاشة الفيديو لحظات قصيرة للمسجد الأقصى، وثمة معروضات على الطاولة، وبعض الصور وضعتها في جيبي لأن أصحابها طلبوا الإسراف في الحفاظ عليها لأن العائلة تملكلها منذ ثلاثين سنة.

 مددت يدي إلى جيب الجاكيت من الداخل، وأخرجت صورة وقلت: هذه أمام برج إيفل في فرنسا، وهذه أمام تاج محل في الهند، وهذه لمدينة تدمرفي سوريا .

 وأثناء هذا الحماس الكبير ضربتْ يدي بشيء صلد في جيبي؛ مددت يدي، وأخرجت مابها، وإذ بي قد أخرجت الحجرالذي أخذته من طالب في شعبة أخرى، وقد جلبه من من الساحة ليضرب زميله.

 خرج الحجر من الجيب، وجمهور الموجهين والطلاب في هذا الصف لا يعرفون قصة الحجر، ولا مبرر لوجوده في يدي. 

نظرت في وجه الجمهور الذي كان ينتظر مني أن أقول لهم من أين هذا الحجر. 

 توقفت لحظة، ثم قلت: هذا الحجر من مدينة البتراء الأثرية في الأردن، وهناك رأي آخر للمؤرخ صبحي يقول فيه :إن هذا الحجر لعنترة العبسي كان يستخدمه في المعارك، وقد جلبناه من متحف المحافظة.

  ثم أعطيت الحجر لطالب، ثم أعطاه لزميله حتى وصل إلى طاقم الموجهين، وأساتذة الجامعة. 

 انتهى الدرس بسلام، وخرجت من الحاضنة. 

 في جلسة تقييم الدرس اتفق الموجهون وأساتذة الجامعة أنَّ كلَّ الوسائل المستخدمة كانت كلاسيكية، ولكنْ أهم شيء حصل في الدرس هو حجر البتراء أو حجر عنترة العبسي الذي جلبته للدرس وسمحت للطلاب بلمسه ومعاينته.

وقال أحد الموجهين: إنه التقى بالمؤرخ صبحي على هامش أحد المؤتمرات العلمية، وأنه سمع منه روايات كثيرة حول الأحجار في الجزيرة العربية وتحديدا حجر عنترة.

شاهد أيضاً

ملعب ديرالزور وصورة الخراب، عن كذبة الأمل بالعمل

ملعب ديرالزور وصورة الخراب  عن كذبة الأمل بالعمل فراس علاوي تمثل هذه الصورة فعلياً مايقوم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر + 15 =