1 نص ل
نشوان الصالح
المثقف وابن البلد:
الدونكيشوتية:
المثقف يتفهمن على ابن البلد: أبدع سيرفانتس في روايته الشهيرة دونكيشوت (أو دونكيخوت) في اقتناص الشخصيات، فالبطل ألونسو قارئ نهم لكتب التاريخ والأدب التي تتحدث عن زمن الفرسان والفروسية الذي أصبح من الماضي، ولكثرة قراءته لتلك الكتب تقمص شخصية الفارس الذي سينشر قيم الفروسية ويحقق العدالة في الأرض، وأطلق على نفسه دونكيشوت من لامانشا، وارتدى درعاً مهلهل وامتطى جواداً متعباً وسار في الأرض يفترض أعداء وهميين ليحاربهم، لكنه في كل مرة يقع في شر حماقته ويخسر المعركة الافتراضية.
لم تكن طواحين الهواء هي العدو الافتراضي الوحيد في الرواية، لكنها الأكثر انتشاراً كتعبير مجازي عن محاربة عدو وهمي.
كان لا بد للدونكيشوت من حبيبة افتراضية يهديها انتصاراته المفترضة، وقصائد الحب المهلهلة، فأطلق اسم دولثينا على ابنة فلاح من قريته كان قد توهم غرامها في شبابه.
وكان لا بد له من تابع، فلم يجد سوى سانشو بانزا، الشخص البسيط الذي يصدق أمثال الدونكيشوت، ويقع في سحره، فبرغم أن الدونكيشوت وعده بحكم جزيرة سوف يحررها، وبالرغم من أن سانشو بانزا اكتشف بعد فترة قصيرة أن هذا الكلام لن يتحقق، ألا أنه تابع مع الدونكيشوت مسيرته على حماره المضحك، وأنقذه في العديد من المواقف.
ابن البلد: ما أكثر الخارجين من التاريخ في يومنا هذا، وما أكثر طواحين الهواء التي يحاربونها، وما أكثر الذين يشبهون سانشو بانزا ويصدقون الدونكيشوتيين المعاصرين. أما حمار سانشو فهو مصيبة أخرى.
المثقف: ودولثينا؟
ابن البلد: مالنا علاقة ببنات العالم استاد.
نص 2
ل حكيم مرزوقي
مجلة العرب
دون كيشوت” رواية سرقت الشهرة من صاحبها
روايتان فقط حصلتا على شهرة فاقت شهرة المؤلف؛ الأولى ضاع اسم مؤلفها واختلف الباحثون في أصلها؛ والثانية رغم أن اسم المؤلف معروف عبر العالم، على الأقل لأن المراكز الثقافية الإسبانية تحمل اسمه..سرفانتس، إلا أن قلة تربط بين الاسم وبين الرواية. الرواية الأولى هي “ألف ليلة وليلة”، والرواية الثانية هي “دون كيشوت”. والروايتان لا تثيران الملل كما قال عنهما بورخيس.
تُعرف الإسبانية بأنها لغة سرفانتس، كما تعرف الألمانية بلغة غوته، الفرنسية بلغة موليير والإنجليزية بلغة شكسبير الذي رحل بعد يوم واحد من رحيل سرفانتس، أي يوم 23 أبريل 1616 لذلك اعتبر هذا التاريخ يوماً دولياً للكتاب.
لعل الفارق الوحيد بين الرجلين هو أن اسم شكسبير أكثر شهرة وحفظا ورسوخا في ذاكرة القارئ من عناوين مسرحياته، أما إن قلت لأحدهم: هل تعرف ميغيل دي سرفانتس؟ فقد يهمهم أو يحك رأسه قليلا محاولا التذكر.. وإذا ما قلت له: صاحب رواية “دون كيشوت”.. ساعتها سيرد عليك فورا بقوله “نعم طبعا”، حتى وإن لم يقرأ الكتاب أصلا.. يكفي أنه يمتلك الحد الأدنى من فكرة هذه الرواية التي أسست لفن كتابة الرواية، ويتلمس المقولة العامة التي بني عليها هذا الأثر الأدبي الآسر، واستحوذ على ألباب كل من قرأها شرقا وغربا، فترجمت إلى مختلف بلدان العالم.
القصة من أولها
لاتزال الرواية محل اهتمامات ودراسات وأبحاث نقدية بعد أكثر من أربعة قرون على تأليفها. باختصار، إن سرفانتس، قد سرقه اسم بطله وجعله “نكرة” أمام هول سطوته، وكذا تفعل الأعمال الخالدة بأصحابها، فمن هو سرفانتس قبل أن يكون التسمية السائدة للمراكز الثقافية الإسبانية في العالم؟ بل وحتى أنه أعطى اسمه لبعض المطاعم البحرية في السواحل المتوسطية التي زارها حين كان مجندا في صفوف مشاة البحرية الإسبانية يقاتل الجيوش والقراصنة العثمانيين سنة 1570، كما في صقلية ونابلي وميناء حلق الوادي في ضاحية تونس الشمالية، حيث أثار هذا المطعم فضولي الشخصي للتذكر والكتابة عن هذه الشخصية الساحرة في كل شيء عاشته وكتبته وقالته.
“لكل مؤلف من سيرة بطل روايته نصيب”.. هذا هو حال من تلمس سيرة ميغيل دي سرفانتس (1547 ـ 1616) قبل روايته “دون كيشوت” التي كتبها سنة 1605، بعد أعمال سابقة لم يكتب لها النجاح، لكنها تتويج لسلسلة تجارب ومغامرات وإخفاقات واعتقالات كان أهمها تجربة سجنه المريرة في الجزائر حيث أمضى خمسة أعوام، ولم يطلق سراحه إلا بعد دفع فدية جمعتها راهبات دير ترينيداديس الذي سيدفن لاحقا في قبوه.
حدث ذلك حين تم اختطافه من طرف قراصنة إبان النفوذ العثماني في شمال أفريقيا واستعانتهم بقطاع الطرق البحرية لبسط سيطرتهم على السواحل البحرية واستعادة بعضها من الإسبان.
لا توجد معلومات دقيقة حول طفولة سرفانتس نظرا لكونها غير موثقة بشكل صحيح، باستثناء حقيقة أنه يتجول من مكان إلى مكان مع والديه بسبب بحث والده المستمر عن عمل. وكانت طفولته صعبة، حيث كافحت أسرته باستمرار مع الفقر. ولا معلومات واضحة حول إن كان قد درس في سنواته الأولى أم لا، إلا أن بعض الباحثين يقولون إنه درس في جامعة سلامانكا العمارة والأدب والفن في روما عندما كان شابا، إلا أن العلامة الفارقة في سيرة صاحب “دون كيشوت” أنه خدم لمدة خمس سنوات في صفوف البحرية الإسبانية حيث أصيب في يده اليسرى ولم يعد قادرا على تحريكها مما جعله عاجزا عن ممارسة المهن والنشاطات ومكنه من التفرغ للقراءة وحدها.
طواحين الهواء
أصعب، بل أخطر، ما في الأعمال الخالدة الكبيرة هو محاولة تبسيطها وتلخيصها بغرض عرضها كـ”خطأ لا بد منه” في سياق متصل بجوهر فكرها وجوهرها الذي ينفتح للتأويلات ويسمح لتعدد القراءات باعتبارها “حمالة أوجه” مثل كل أثر إبداعي تحتفي به البشرية جيلا بعد جيل.
ليس انتقاصا من أي قدرات ذهنية على الفهم والاستيعاب، ولكن، إذا افترض المرء أنه مرغم لقص هذه “الخرافة” الشيقة الممتعة والمضحكة أحيانا، لأطفاله، فإن التبسيط يقتضي القول إن دون كيشوت بطل الرواية هو ألونسو كيكسانو، وهو صاحب مزرعة وعنده ما يكفيه من المال ليستطيع البقاء ويغنيه عن العمل، وهو بذلك يقضي معظم وقته في القراءة كأجمل رحلة تنسيه قسوة الواقع وجبروته. يميل هذا السيد إلى قراءة الكتب التي تتحدث عن النبلاء الفرسان في العصور الوسطى وتمجد أخلاقياتهم وقيمهم المفعمة بكل معاني الرجولة والخصال الحميدة التي يفتقدها عصره.
أي نوع من الفرسان هم هؤلاء في ذهن صاحبنا؟ هم أولئك الذين يركبون الخيل، يذبحون التنانين، ولا ينحنون إلا لتقبيل أيادي السيدات في رقة ممزوجة بالرجولة والعذوبة.
أصبح ألونسو كيكسانو يحلم أن يكون مثلهم.. الأمر سهل وبسيط في ذهنه، فما عليه إلا أن يرتدي درعا وخوذة، يتخذ حبيبة ملهمة يختار لها اسما مناسبا كي يهديها انتصاراته، أسوة بفرسان وشعراء العصور الوسطى، ثم يمتشق سيفا ويحمل رمحا كي يصير مثلهم. هذا مع بعض الإضافات والتحويرات التي لا بد منها كأن يطلق على نفسه اسما لائقا اختار له دون كيشوت، امتطى فرسا هزيلا يشبه البغل وبدأ بالتجوال في القرى والأرياف بحثا عن المغامرات، وطلبا للمعارك التي تهدف لبسط العدل وتخليص المجتمع من الأشرار.
ولأن التنانين التي تقذف بالنيران من ألسنتها، وتريد سحق المستضعفين لا توجد إلا في رأسه المكتنز بالخيال، فإنه بدأ يفترض أن طواحين الهواء هم أعداؤه الذين يتربصون ويكيدون له.. طواحين الهواء التي تسيرها الطبيعة الجبارة والعصية على القهر والهزيمة في إشارة إلى المحتوى الوجودي للقصة.
كان لدون كيشوت أن يختار له مرافقا مخلصا ومطواعا، يؤمن برسالته الإنسانية النبيلة، فاختار رجلا بسيطا، طيبا وغريب الذكاء، اسمه سانشو، يتبعه على ظهر حماره في حله وترحاله، يساعده في كل شيء، فهو بمثابة ذراعه اليمنى وخادمه الأمين. يدعم أفعاله وتهيؤاته بشتى الأمثال الشعبية التي يحفظها ببراعة لافتة.
يتدخل دون كيشوت في أحداث يراها واجبا عليه كفارس نبيل مثل زجره لفلاح يجلد راعيا له بسبب خطأ ارتكبه، فيردع الفلاح ويهدده بتنزيل أشد العقوبات عليه، لكن الأخير سرعان ما يعود إلى فعلته بعد أن يمضي دون كيشوت مزهوا بانتصاره ومتباهيا بفعلته تلك أمام سانشو، الذي يبالغ في تمجيده وتذكيره بالملاحم الكبيرة.
جنون العظمة
حين رأى الناس جنون دون كيشوت، رغبوا في علاجه، وإعادته إلى جادة الصواب حسب رأيهم. رسموا لذلك مخططات لجعله يعود إلى سريره بعد أن أنهكه الترحال ومقارعة طواحين الهواء، محاولين إقناعه أن كل ما أقدم عليه ليس إلا أوهاما وأن هذا العالم لن يتغير لمجرد رغبتك في تغييره.
وفي نهاية القصة فإنّ دون كيشوت يعلم أنّه كان يمارس ضربا من الغباء ولا فائدة مما يفعل، ولكن الأوان كان قد فات، فهل يظل على قناعته الأولى أم يتخلى عنها معلنا الهزيمة. وفي النهاية يصاب بحمّى شديدة يختلط فيها الهذيان مع الحكمة، الأسئلة مع الأجوبة، ويموت على إثرها وهو على سريره وليس على حصانه كما كان يتمنى.
ومن هنا أمست “الدونكيشوتية” مصطلحا معمما ونزعة فردانية يكنى بها كل سلوك مبني على حلم غير قابل للتحقق. وتزحزحت الوجودية عن موقعها في أكثر من سياق فأصبحت تعني جنون العظمة، والنرجسية المطلقة، والتطاول على الأقدار والطبيعة، وغير ذلك من المعاني التي تناسلت من هذه الرواية التي لا ينطفئ بريقها.
لكثرة ما أشيع حول هذه الرواية، تهافتت القصص والسرديات حول هذا الكتاب الأعجوبة، حتى أحيط بهالة من الروايات لم يحظ بها أثر أدبي قبله ولا بعده.. وتلك حال النصوص الأدبية التي تبلغ حد الخرافة، وتنسج حولها الحكايات التي تراوح بين الحقيقة والخيال.يتفق النقاد والدارسون على أن الرواية برهنت على بداية الواقعية الأدبية كجزء من الجماليات النصية وبداية انطلاق النوع الأدبي للرواية الحديثة المسمى بالرواية متعددة الألحان، والتي ستحدث تأثيرا كبيرا في وقت لاحق على الأعمال الروائية الأوروبية، من خلال تناول ما تمت تسميته بالكتابة غير المشروطة والتي تمكن الفنان من إظهار كل ما هو ملحمي وغنائي وتراجيدي وكوميدي في محاكاة ساخرة حقيقية لجميع الأنواع الأدبية.
ويشير الناقد إبراهيم العريس إلى أن الرواية بجزأيها قد وضعت الكاتب ميغيل دي سرفانتس على خارطة تاريخ الأدب العالمي، جنبا إلى جنب مع كل من دانتي أليغييري وويليام شكسبير وميشيل دي مونتين، الذين تم اعتبارهم من منظري الأدب الغربي في رائعة هارولد بلوم “المجمع الغربي”.
وفي عام 2002، وبناء على طلب هيئة الكتب النرويجية، فقد تم عمل قائمة بأفضل الأعمال الأدبية على مر العصور بتصويت مئة كاتب من الكتاب العمالقة من أربع وخمسين دولة مختلفة. وظهرت الأعمال مرتبة ترتيبا أبجديا دون غلبة لعمل على آخر، ولكن باستثناء وحيد كان لصالح رواية “دون كيشوت” التي تصدرت القائمة باعتبارها أفضل عمل أدبي تمت كتابته في التاريخ في ذلك الوقت. وتعد الرواية واحدة من أكثر الكتب التي تم نشرها وترجمتها على مر التاريخ.
وزعم بعضهم أن سرفانتس كتب الرواية في السجن بعد تورطه في حادثة اختلاس، وقال آخرون إن الجزء الثاني من الرواية لا ينتمي إليه، وتوالت الأحجية حتى تندرت بها جماعات، وقالوا إن سرفانتس لو شد رحاله في اتجاه العالم الجديد كما كانت الوجهة آنذاك، لحرمنا من “دون كيشوت”، وأطبقت الصفحة على أختها لو استسلمنا للمزاعم والتقولات.
لسرفانتس أعداء وخصوم وحساد، لكنّ لدون كيشوت أحباب وعشاق ومعجبون، فلا تكاد تخلو دولة في العالم من “ناد” غير معلن لدون كيشوت، وولهه الأبدي نحو المغامرة وعشق المستحيل.
خرج دون كيشوت من عباءة صانعه، واستقل عنه ضاربا عرض الحائط بالمأولين والمزايدين والمشككين.
ولعل الرواية تشير إلى أهمية اللحظة التي يتجسم فيها الحلم ويصبح واقعا عندها نتذكر كل من آمن بهذا الحلم وساعدنا على تحقيقه حتى رأينا الفارس المضاد دون كيشوت الحالم يدخل المدينة ويذكرنا بأنه علينا أن نواصل أحلامنا وألا نتوقف مهما كانت الصعوبات والعراقيل.
وفي الندوة، استهل الشاعر التونسي آدم فتحي الجلسة بقصيدة “رحلة دون كيشوت الأخيرة” وهي لصديقه الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان الذي كان يرى أن “المنفى هو أن نعيش وسط نفايات المثل وليس أن نرحل”.
أن رواية “دون كيشوت” تمثل “نقلة من العصور الوسطى واختراقا للزمن وصمودا على مدى أربعة قرون محافظة على أهميتها كرواية مرجعية أثرت الروايات العالمية وأثارت الجدل وترجمت إلى كل اللغات التي ترجم لها الإنجيل”.
وفي الندوة التي احتفت بصاحب دون كيشوت، بعد أربعة قرون على تأليفها، بين الشاعر التونسي المنصف الوهايبي إمكانية أن تكون للنص جذور عربية وأن “دون كيشوت” ليست رواية بالمعنى الدقيق للكلمة ولكنها من الأجناس التخييلية، متابعا “أهم ما يميز الرواية الذاتية كما نفضل وليس رواية التخيل الذاتي أن الشخصية الرئيسية متطابقة في هويتها مع المؤلف، غير أن ما تعيشه في القصة من أحداث وما تتخذه من مواقف بعيدان عن سيرة المؤلف وما عاشه في الواقع المرجعي”.
يكفي الإشارة إلى أن الشاعر الأرجنتيني بورخيس قد قال “كتابان كبيران لا يبعثان على الملل، هما دون كيشوت وألف ليلة وليلة”.