وردة الياسين
أمهات وزوجات المفقودين، ألم حتى الثمالة وبعض من أمل.
سقطت فاتن عجان مرتين في أحد شوارع “فرنسا”، إثر نوبات من الانهيار العصبي التي تصيبها . توقفتْ عن الكتابة، وهي الصحفية والشاعرة والمعدة للبرامج التلفزيونية سابقاً ، تقول ” كسرت أصابعي ولم أعد قادرة على إمساك القلم” ، وتوقف العمر والزمن لديها منذ 26 حزيران 2013، وهو تاريخ إعتقال إبنها عبود حداد من قبل عناصر تنظيم “داعش” الذين كانوا متواجدين على حاجز أطمة.
وتعتقد فاتن بأن الألم ربما يهدأ قليلاً ، وتخف وطأة المعاناة من الفقد لدى أهالي المفقودين والمعتقلين ، إذا ما تمكنوا من معرفة مصير أبنائهم وأحبتهم، ومحاسبة كل شخص كان ضالع في اختفائهم وأعتقالهم ، مهما كان إنتماء هذا الشخص سواء كان من قوات النظام وميليشياته، أومن أي فصيل أو تشكيل مسلح (تحت أي مسمى) في سوريا.
لم يكن صوت فاتن وهي تحدثني عن ابنها المختفي منذ سبعة أعوام ، وحده من فطر قلبي حزناً، بل كان لأصوات باقي السيدات اللواتي حدثنني عن أحبتهن المفقودين التأثير نفسه . وأجزم بأن عشرات آلاف الأمهات والزوجات السوريات صرن يحملن ذات نبرة الحسرة والوجع، إذا ما تحدثن عن أحبائهن المفقودين والمعتقلين والمغيبين قسراً .
سميرة (اسم مستعار): ” أتمنى لو ابتليت بالعمى قبل مشاهدة ابني خلف القضبان” هكذا بدأت كلامها معي
خرجت سميرة مع ابنها الوحيد (20 عاما) وابنتيها من الغوطة الشرقية، هرباً من القصف والحصار، وهلعاً من ضربة الكيماوي التي تعرضت لها الغوطة الشرقية في صيف 2013.
“مصابة بشظايا القذائف التي هدمت منزلنا ، يحملني ولدي من منطقة لأخرى في دمشق بحثاً عن منزل يأوينا بعد مغادرتنا الغوطة الشرقية” تقول سميرة.
وتتابع: ” لم أكن لأخرج من بيتي مع أبنائي من الغوطة الشرقية، إلا بعد أن قطع أمن وجيش النظام وعداً لنا بأنهم لن يتعرضوا بالأذى لأي أحد ليس له أي صلة (بالمعارضة أو بالإرهابين أو بالمتطرفين الاسلامين”) على حد زعمهم.
لم تستطعم سميرة نعمة الأمان والراحة في البيت الذي استأجرته في ساحة شمدين في دمشق سوى بضعة أشهر. ففي أواخر 2013 اقتحمت قوات النظام المنزل واعتقلت ابنها. بداصوت سميرة مرتعشاً وهي تقول: ” قالوا إنهم فقط سيفيشون هوية ابني ثم سيعيدونه ( التفييش هو مراجعة أوراق الشخص والبحث فيما لو كان مطلوباً لأمن النظام ) … أي تفييش يتحدثون عنه ؟ كيف لي أن أترك ابني يخرج من الغوطة لوكان ضالع في أي عمل ضد النظام؟هكذا كنت أقول لهم وأنا أرجوهم كثيراً أن لا يأخذوه، توسلت مرارا لهم” تتوقف سميرة قليلاً عن الحديث لتمطر ولدها بدعوات الحفظ والصون له من كل مكروه، ثم تتابع: ” سبع سنوات يحرقني فيها القهر كل لحظة”.
وحيدة كانت سميرة باحثة عن ابنها منذ لحظة اعتقاله ” فأعمامه وأخواله كانوا خائفين على أنفسهم من احتمالية إعتقالهم ” حتى جاءها خبر بعد ما يقارب السنة من اعتقاله عن وجوده في سجن صيدنايا.
خمس دقائق مدة الزيارة
تضيف سميرة قضينا مدة الزيارة التي استمرت لخمس دقائق فقط أرمقه ويرمقني فيها نتبادل النظرات الضائعة .
أنا(منيح)، هي الكلمة الوحيدة التي كان يرددها، بدا شاحباً نحيلاً كهيكل عظمي، تضيف بمرارة تمنيت لو ابتليت بالعمى قبل مشاهدته خلف القضبان “
تخبرني سميرة عن زياراتها الثلاث التي رأت فيها إبنها في سجن صيدنايا. حيث أخبرها أمن السجن لاحقاً كل ما كانت تطلب زيارة إبنها، بأنه لم يعد موجوداً في السجن، وأنه تم ترحيله إلى فرع الأمن السياسي لاستكمال التحقيق معه.
تركت سميرة دمشق، بل سوريا كلها، وتركت مصير ابنها للقدر. ” أقرب إلى الجنون بت أنا” تختم سميرة حديثها معي، ولاتزال ترقب ذلك اليوم الذي تسمع فيه أي شيء عن ابنها الوحيد.
الاضطرابات النفسية تطبق بإحكام على شهد (اسم مستعار) وطفلها
كانت شهد (مواليد 1996) حاملاً في شهرها الثالث، تمسك بيد طفلها ذو السنوات التي لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة وممسكة بيد زوجها، وهي تتجه إلى الحدود التركية السورية، بعد ان قررت مع زوجها الفرار من حمص المحاصرة من قبل قوات النظام وميلشياته، بحثاً عن حياة أكثر أمناً في تركيا أواخر 2015.
في طريق التهريب إلى تركيا، طوقت عناصر من النظام المتواجدة على مقربة من الحدود السورية التركية شهد وزوجها وطفلهما، وانهالت عليهم جميعاً بالضرب المبرح دون أي اعتبار لحالة الزوجة الحامل أو للطفل الصغير الذي أصيب برضوض في جسمه، ونزيف في انفه وأذنه، وليصاب لاحقا بفقدان جزئي في سمعه على أثر الضرب الشرس.
تفر شهد مع طفلها إلى تركيا بعد أن شاهدت وقوع زوجها فريسة للاعتقال من قبل تلك العناصر، الذين هدودها بالاغتصاب إذا لم تتنح جانباً .
“خضعت لعلاج نفسي طويل بعد وصولي إلى تركياوأحاول جاهدة أن أتعافى” تجهش شهد بالبكاء وتتابع: ” حالتي النفسية ليست هي ما يؤرقني، بل حالة طفلي النفسية الذي شاهد والده تضرجه الدماء نتيجة الضرب المبرح من قبل عناصر جيش النظام”. ويكبر الطفل ليصبح اليوم في الصف الثالث وهو لا ينفك يسأل والدته: ” أين والدي؟، لماذا هربتي وتركتيه وحيداً بين أيدي الجيش؟”.
تقول شهد: ” العلاج النفسي أصبح رفيقاً لي ولطفلي أكثر من أي شخصا أخر في العالم!”
منيرة: ” أريد أن أرتاح، أريد فقط أن أعرف مصيريهما”
يظهر تامر النجار على قناة الدنيا التابعة لنظام الأسد بعد حوالي الأسبوع من اعتقاله مع أخوه شامل من قبل جيش النظام، (بصفة إرهابي) حسب ما أجبر على قوله، وتهمته أنه قد حول محل النجارة خاصته في جسر الشغور، إلى وكر يدير من خلاله العمليات الإرهابية ضد النظام.
تقول والدته منيرة: ” الذنب الوحيد الذي فعله ابني تامر هو خروجه في المظاهرات السلمية التي خرجت ضد نظام الاسد، والفيديو الذي ظهر فيه كإرهابي فيديو باطل ومفبرك، فالمحل الذي نملكه لم يكن يوماً سوا محل نجارة”.
واعتقلت أفرع النظام الأمنية تامر وشامل النجار في أيار 2012. وتم ترحيلهما كما قالت والدتهما من إدلب إلى دمشق بعد حوالي الأسبوعين من اعتقالهما، لينقطع بعدها أي خبر عن مكان وجودهما رغم محاولات الأم والأب الحثيثة لمعرفة مكانيهما.
” بعد سنتين من اعتقالهما وصلنا خبر بأن تامر وشامل توفيا تحت التعذيب، فأسلمت أمري لله واحتسبتهما شهداء” تتنهد منيرة وتضيف: ” بعد مغادرتي سوريا ووصولي إلى تركيا، تواصل معي الكثير من المعارف وغير المعارف، كل منهم يخبرني رواية مختلفة عن ولدي، فمنهم من يقول بأن تامر وشامل لا يزالان على قيد الحياة، ومنهم من يخبرني بأن شامل حي، أما تامر فقد توفي، وهناك أخرون قالوا بأن الولدين على قيد الحياة”. وتدخل منيرة مع زوجها الذي أصابته حالة من الهيستريا بعد اعتقال الولدين في دوامة من الشك واليقين عن ولديهما، وعن هذه الدوامة تقول منيرة: ” يهبط ضغطي ويرتفع، ويتربص المرض بجسمي كلما جاءني أحد بخبر عن ولدي، أريد أن أرتاح أن أعرف مصيريهما فقط”.
وتتساءل منيرة بحزن شديد: ” هل سألتقي ولدي يوما ما؟”.
هيام، وحصار الخوف
أصبحت هيام تخاف من نفسها، من أقرب الناس لديها، “النظام يراقبنا حتى وأن كنا في الغربة!” هذا ما تعتقده هيام. ولم يأت اعتقادها هذا عن عبث فتقول: “حين يعتقل زوجك ومن بعده ابنك نتيجة تقرير، قيل إنه كتبه فيهم أشخاص مقربين منهم، لابد أن تخاف من نظام يزرع عسسه ومخبريه في عقر دارك. وحين تتربى في ظل نظام شَرّبَ شعبه حقيقة مفادها، بأن العائلة كلها قد تعتقل وتعذب إذا اعترض فرد واحد فيها ولو بالكلمة على سياسة النظام وحكمه، فلابد أن ترتعد خوفاً و(تمشي الحيط الحيط) لتحمي نفسك ومن بقي من عائلتك من فقد واعتقال جديد”.
وكان زوج هيام قد اعتقل في عام 2012، ومن ثم اعتقل ابنها البكر (19 عاما) في العام الذي يليه. “تمكنت من تتبع أخبار زوجي الذي زار كل الأفرع الأمنية حتى عام 2015 حيث حول إلى سجن صيدنايا العسكري، لينقطع بعدها أي خبر عنه لاحقا. أما ابني فلم أتمكن من معرفة أي خبر عنه منذ لحظة اعتقاله”. َ
” حملت صورتيهما في حقيبتي، ولاحقت ما استطعت كل شخص يخرج من المعتقل، لأريه صورتي ابني وزوجي ولأسأله إن كان قد شاهدهما” تقول هيام.
يشتد خوف هيام أكثر الآن على زوجها وابنها الذي ” كسر ظهري اعتقاله” كما تخبرني، بسبب انتشار “فيروس كورونا” المستجد في العالم، فتقول: ” مات مئات المعتقلين في سجون النظام بأمراض السل والرئة نتيجة شروط المعتقلات السيئة، فكيف بمرض ووباء مثل الكورونا، فهو سيفتك ودون رحمة بالمعتقلين المتراصين فوق بعضهم البعض في زنازين أقل مايقال عنها جحور ومقابر”.
فاتن عجان، ملخص المعاناة
تحكي فاتن ألمها: ” هجرني النوم ليلا” منذ سبعة سنوات، فما أن تغفل عيني قليلاً، يوقظني القلق والرعب على ولدي، فأدور كالتائهة في غرفتي. أقول لنفسي هل يعني شلل كتفي الذي أصابني بأن كتف ولدي يؤلمه؟ هل يتعرض ولدي للجلد ؟ لذلك أشعر أنا بأن أحد يضربني بالسياط على جسدي! ”
ويعلو صوت فاتن وكأنها تصرخ حين تقول: “لدي ألم مضاعف عن ألام أهالي المعتقلين والمفقودين عند النظام، لأن ولدي أعتقل في مناطق الثورة التي ضحينا من أجلها بكل ثمين ونفيس، ومن قبل من؟ من قبل داعش، الوهم الكبير الذي أوجده النظام وحلفائه”.
وتختم فاتن حديثها معي: ” كان الأمر ليبدو أرحم بالنسبة لي لو أن ولدي قد استشهد، ولكن أن يكون مجهول المصير أمر أصعب وأشد وجعاً في القلب والروح. إلا أنني لم ولن أتوقف لحظة عن البحث عن ولدي. من حقي ومن حق كل أهالي المفقودين والمعتقلين الكشف عن مصير أبنائنا وأحبتنا ومحاسبة كل فرد أجرم بحقنا وبحقهم”.
شعاع الأمل
شعاع الأمل هو مكتب تم تشكيله لعائلات المفقودين والمختفين قسراً ، ضمن مركز أمل للمناصرة والتعافي في انطاكيا. انضمت له جميع السيدات السابقات أملاً بالوصول إلى خبر يثلج قلوبهن عن أحبائهم، وإن لم يكن، فسعياً منهن للوصول إلى الحق والحقيقة.
تقول المحامية أمل النعسان، رئيسة مجلس الإدارة في مركز أمل للمناصرة والتعافي: ” مايزال النظام وحلفاؤه والجهات المسلحة الأخرى وبعد مرور عشرة سنوات على اندلاع الثورة في سوريا، ترتكب جرائم الإخفاء القسري. وماتزال عائلات المفقودين والمختفين قسراً ، تناضل في البحث والتقصي عن مصير أحبتهم. ومن أجل ذلك أنشئ مكتب شعاع الأمل ضمن مركزنا، ويهدف المكتب إلى مناصرة قضية المفقودين من خلال زيادة معارف أهالي المفقودين بالقوانين الدولية والمحلية واتفاقيات حقوق الانسان لتسخيرها بطريقة تخدم قضيتهم، وهي تحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا”.