في يوم وفاته
الشرق نيوز تعيد نشر أحد أهم حواراته حول مستقبل سوريا بعد الثورة
الطيب تيزيني
في حوارٍ له مع سناء ابراهيم في الأخبار عدد6 أيلول 2017
تحدث المفكر السوري الطيب تيزيني (مواليد حمص 1934)، عن احتمال حدوث انفجار طائفي في سوريا، مؤكداً أنّه لو حدث ذلك، فهذا لا يعني أنّ الشعب السوري طائفي، بل إنّ هناك مسوغات لمثل هذا الاحتمال. حدث الانفجار عام 2011، واستمر الطيب بالدعوة إلى الإصلاح، لكن ما حدث أطاح بالوطن. في 2017، تقول له زوجته عن سوريا: «لا أستطيع أن أرى تلك النقطة البعيدة». يقول لها: «إنني أرى بقعة كبيرة».
جملتان على النقيض تماماً، واحدة تغرق باليأس، وأخرى تغرق بالأمل، لكنهما تجمعان الطيب تيزيني وزوجته هويدا السباعي اللذين انتقلا للعيش في حمص منذ أن قرر صاحب «بيان في النهضة والتنوير العربي» الانسحاب قليلاً من الحياة السياسية (2012)، وكتابة سيرته الذاتية التي لا يريد لها أن تنتهي، «فحين تنتهي، أكون قد انتهيت أنا» يقول المفكر المعروف، مسرّاً لنا أنه بدأ يعاني صعوبة في تذكر الأسماء والأماكن بعد الأحداث التي ألمت بسوريا. في حوارنا مع تيزيني، حاورنا المُغّني، إمام الجامع، المتعلم، الإنسان الذي يبكي سوريا في لحظة وجع… حاورنا الراوي الذي أعاد سرد الماضي ليقول إنّ ما حدث في 2011 بدأ قبل سنوات، وهو فقط كان ينتظر أن يخرج. وعندما خرج، كان خروجه ناقصاً وغير مسبوق
■ كيف توصّف ما يجري في سوريا بعد سبع سنوات من الحرب؟
سوريا الآن ساحة مبتذلة للعالم. الكل يسعى لتحصيل موقع له فيها، وهي تعيش اليوم تمزقاً هائلاً. حدث ما حدث، ولن يمرّ بسهولة. بعضهم يريد أن يبقى خمسين سنة، وآخر 25 سنة، وثالث يريد أن يبقى دائماً، فالخلاف صار حول فترات البقاء والتملك في سوريا، وهذا ينذر بأن سوريا قد تمزقت، لكن هذا لن يحدث. سوريا في لحظة واحدة يمكن اكتشافها متآخية حتى الثمالة، بحيث لا يستطيع هؤلاء الأغراب أن يأخذوا ما يأخذون. ولذلك نطمئن رغم أنّ الأمر سيكلف كثيراً، ونقول «ليكن، إن سوريا تساوي تاريخاً بأكمله».
■ الخروج من أجل التغيير في عام 2011 هل جاء في وقته؟
كان الخروج من أجل التغيير ناقصاً وسابقاً لوقته، إضافة إلى أن ما حدث اختُرِقَ من هنا وهناك. كان في طور النضوج. وكانت الطبقة الوسطى تتجه نحو اكتشاف المداخل الشرعية الى ذلك. أتذكر أن هناك فئات خرجت لمجرد الخروج، واعتُبر ذلك شيئاً جيداً، لا بأس، فهذا الذي خرج في اللحظة غير المناسبة قد يكتشف نفسه ويكتشف مواقعه. سارت التظاهرات سلمية، بدأ بعدها الصراع المسلح. ومؤسف أن يقال بعد ذلك، إن أولئك السوريين خرجوا مسلحين، وأنا شاهد. كانت تظاهرات تسعى إلى إعادة البناء من داخل البناء نفسه وعبر الجميع إن أمكن. كانوا قد مثلوا فكرة يسوعية هائلة (اغفر لعدوك)، خرجوا باسم مشاريع طُرِحت سابقاً ولم يُستجب لها. أتت المفاجأة بظهور السلاح، وظلت سوريا تفترض منذ سبع سنوات أن السلاح يمكن أن يزول في لحظة ما ولم يزل، وظلت الاحتمالات موجودة بوجود من يحمل السلاح.
مظاهر التقسيم التي نراها ما هي إلا هراء ولن تتم، لأنها لا تمتلك الشرعية التاريخية
■ كيف ساعدت حالة التفكك التي يعيشها الداخل السوري على التدخل الدولي في الحرب السورية؟
إن أي عملية تحول في داخل عربي أو غير عربي، لا بد من أن تكون مسبوقة بعملية تصدع داخلية قد لا تكون ظاهرة، بحيث أن الآخر يأتي ليفعل فعله. الداخل هو الذي يحكم عملية اقتحام الخارج له. ما حدث أنّ الداخل تصدع من داخل بنيته. هذا ما حصل في البلدان العربية وفي سوريا. فمن الخطأ أن نقول بعد ذلك، إن هناك مؤامرات خارجية أحكمت قبضتها على العالم العربي. حين يكون الداخل ضعيفاً وعندما توجد سلطات في هذه الدواخل غير قادرة على الاستجابة لاستحقاقاته، عندها يأتي الخارج ليجد تربته الخصبة.
■ ألم تكن هناك بوادر لحدوث شيء ما؟
كانت هناك إرهاصات وبدايات أولية لحدوث شيء ما، لأنّ الإصلاح الذي كان مطلوباً بشدة لم يُستجب له. لقد كنتُ طرفاً فاعلاً في ذلك. لغاية وفاة الرئيس حافظ الأسد، حاولت أن أدفع باتجاه الإصلاح، لأنّ هذا الإصلاح قد يطيح بالبعض، لكن ما حدث أطاح بالوطن. إن ما حدث أمر سابق في حياة البشرية. إنها قصة طويلة مع وزير اقتصاد سابق كان مسؤولاً عن العمل باتجاه مشروع الإصلاح قبل وفاة الرئيس حافظ الأسد. كنا قد اتفقنا على كتابة ورقة عمل وتم إنجازها وتبادلناها مع الأصدقاء والمهتمين، وأعلمناهم أننا سنلتقي معهم بعد دراستها. بعد يومين من ذلك، اتصل بي الوزير المرحوم، وقال لي: «اغسلها واشرب ماءها».
■ ما الذي دعاك الى مواصلة طرق الأبواب؟ هل هو نوع من الإيمان بقدرتك على الفعل، أم هو يقينك بمعرفة الداخل السوري وتركيبة النظام؟
ليست هناك بنية مغلقة على الإطلاق، فهذا غير موجود في سوريا. لذلك، كنت أفكر دائماً أنني قادر على اكتشاف ثغرة في هذه البنية. لذا، كان مهماً بالنسبة إليّ أن أستطيع فعل شيء، ولو كلمة، وهذا ما فعلته في اللقاء التشاوري الذي جرى في صحارى في ريف دمشق (2011). قلت بوضوح إنّ هذا اللقاء يعادل انتصار سوريا، فليكن مدخلاً للخلاص السوري الذي يبدأ بتفكيك الدولة الأمنية التي تعني أن يُفسد من لم يُفسد بعد، بحيث يصبح الجميع مُفسَدين ومطالبين بالإفساد تحت الطلب. لم يستجب أحد إطلاقاً. بعدها، اجتمعت بكثيرين معتقداً أن الجميع متفق على الحل السلمي، وعدت إلى حمص أنتظر لقاءً آخر، لكني سمعت أخباراً أخرى. لقد أُطيح بفكرة السلم الأهلي. مع ذلك، بقيت أبحث عن مخرج. أسست «مجلس الحكماء» على اعتبار أن سوريا الآن بحاجة ماسة للحكمة، وكانت بدايات طيبة. لكن تبين لي أنّه يعصب أن يحدث شيء حقيقي، فتركت مجلس الحكماء، واكتشفت مرة أخرى أن الأبواب مغلقة.
الطبقة الوسطى ما زالت موجودة، وستكون قادرة
على لمّ الشمل مجدداً
■ إذا أردنا أن نؤسس اليوم لمشروع نهضوي جديد، هل ما زالت الإمكانية متاحة؟ من هو الحامل الاجتماعي الذي سنعتمد عليه، ونحن نرى المجتمع وقد تفكك الى هويات وانتماءات مذهبية وعرقية؟
في بداية التحولات، تبين أنّ الحامل الاجتماعي لم يكن حاضراً بكليته. كانت هناك نتف من هنا وهناك. نتف يكاد التمزيق أن ينهيها. ولهذا لا نستطيع أن نزعم بأن الحامل الاجتماعي السوري (المتمثل في الطبقة الوسطى) كان هو الذي قام بما حدث، إنما كانت هناك شراذم تسعى إلى أن تفعل شيئاً. الطبقة الوسطى لم تكن موجودة إلا لماماً، لكنها استعادت رواءها بعدما لاحظت الاحتراب الذي حدث. الطبقة الوسطى ما زالت موجودة، وستكون قادرة على لم الشمل مرة جديدة. إنّ شيئاً ما يحدث ولن ينتهي.
■ ماذا عن مظاهر التقسيم التي نراها ودعوات الانفصال في الشمال السوري؟ كل الوقائع تدحض ما تقوله دكتور وتشي بأننا لسنا بنية واحدة؟
مظاهر التقسيم التي نراها ما هي إلا هراء ولن تتم، لأنها لا تمتلك الشرعية التاريخية. كل تلك المناطق التي قسمت ستلتئم في لحظة تاريخية، والناس الذين يعيشون في هذه المناطق ينتظرون اللحظة كي يعودوا الى سوريتهم الأساسية. لذلك، أرى أن هذا الذي يحدث إنما هو ضحك على التاريخ، ولعبة أمم مخفقة وفاشلة ودنيئة. سوريا لا يمكن تقسيمها، لأن واحدها مرتبط بثانيها وبثالثها. أظنّ بأن سوريا بالصيغة التي مزقت بها، ستعود ثانية إلى وحدتها. الجميع الآن مستعد لأن يكون ضمن بنية واحدة، وأنا أراهن رهاناً تاريخياً على ذلك. البدء ليس معقداً، لكن المعقد هو المسيرة ذاتها.
■ الأمر بهذه السهولة؟
لن يكون الأمر بهذه السهولة، لكن لا بد من وضع خيارات تداعب عواطف الناس وتدعوهم إلى عدم الاستسلام أبداً. قسم كبير ممن غاص في المسألة السورية، سيجد نفسه مدعواً للعودة، لأنه لن يجد وطناً آخر له. لن يجد إلا أوطاناً ممزقة تحرقه بلهيبها. ستبقى سوريا المرجع الوحيد للسوريين، لأنّ العالم لا يحتمل إلا سوريا الوحيدة التي لا بدّ من إعادتها.
■ سبق لك أن تحدثت عن إمكانية حدوث انفجار طائفي في سوريا عام 2000 وقلت إنه ستكون له مسوغاته، ما الذي أظهر لك هذا الأمر؟ هل هناك من شيء قادك الى هذه الخلاصة؟
دعيني أروي الواقعة التي حدثت معي ومع المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي عام 2000 في جامعة دمشق، وقد سبق أن تحدثت عنها، لأنني أريد أن أقول شيئاً بعدها: اتفقنا أنا والدكتور البوطي على مناظرة في جامعة دمشق حول «الاسلام وسوريا» بدعوة من الجامعة. ذهبت قبل اللقاء بربع ساعة، ووجدت جمهوراً واسعاً من أصدقاء البوطي، وسمعت كلاماً بأن كل شيء قد انتهى وأنهم انتصروا. حتى قيل لي إنّ الدكتور البوطي قال: «ظهر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً»، أي أنه أعلن أن المسالة انتهت. دخلت ولاحظت هذا الجو المضطرب، وعلت أصوات حين دخلت الباحة، وأخرى رددت كلاماً نابياً أثناء دخول أساتذة كلية الفلسفة إلى قاعة المحاضرات. إلى أكثر من هذا، أحدهم قال علناً: «اليوم سيحدث انقلاب عسكري في سوريا». قلت لهم: «الآن، نحن نلتقي أمام الواجب البسيط». آخرون أخبروني أن مجموعة من الحضور أدّت «صلاة الشهادة». اتضح أن الأمر معقد واللقاء لم يعد ممكناً. أرجأت الجامعة بالاتفاق معي المناظرة حتى وقت آخر. وفي حينه، اتصل رئيس الوزراء بي معلناً اعتذاره عن تعاظم «قوى الظلامية على قوى التنوير»، وأن الأمر سيختلف لاحقاً. أجبته شاكراً، حين يتم الأمر بروح من الحرية والديمقراطية. ما أريد قوله إنّ أحداث2011 بدأت منذ ذلك التاريخ.
«داعش» مشكلة عالمية ولدت في أوروبا، لكن سوريا حرّضت
على ظهورها
■ أنت ابن المشاريع والأحلام الكبرى، ما الذي بقي من أحلامك؟
أحلامي لم تتغير، سوريا هي حلمي، لا أملك حلماً آخر. ازداد هذا الحلم حضوراً في حياتي، بخاصة بعد زيارتي إلى ألمانيا وتقديمي محاضرة أمام مستشرقين كان سؤالهم الأكبر: هل تعود سوريا؟ قلت لهم: أريد أن أسمع آراءكم أنتم. قالوا: سوريا التي نعرفها لا يمكن انتزاعها من أرضها. قلت لهم: هذا رأيي. حينما تسقط سوريا، يسقط العالم، وهذا لن يحدث. وسأروي هنا حادثة عشتها: في أحد الأيام، اتصلت بي امرأة وبدا صوتها حزيناً. قالت لي: «دكتور بترجاك تساعدنا، انا وابنتي كنا نسير من هذا الطريق، فجأة أوقفتنا مجموعة وأخذوا البنت. عدت إلى البيت وأخبرت والدها. والدها توفي. بترجاك تساعدنا، بدنا البنت». (قبل أن يُكمِل جملته، يبكي الطيب للحظات، يرتشف قليلاً من الماء، ثم يقول بصوت متقطع) هذا الحادث دمّر أعصابي. أعترف أن المسألة وصلت الى حالة، قد تكون 90% أو 99% من الفشل. مع ذلك أراهن على الـ 1%، علماً أنني كلما مررت في الشوارع والبيوت، اكتشف طاقات هائلة. واجهت رجلاً معمراً في الشارع يبتغي المساعدة، سألته: ماذا تريد غير المساعدة؟ قال: أن أستعيد صحتي وأعمل من أجل سوريا. قلت له: هل تستطيع العمل؟ قال: الآن لا، لكن سأمتلك قوة جديدة حين أسمع أخباراً جديدة عن سوريا. بالمختصر، الناس يريدون بارقة أمل. لذلك، لا شك في أنّ سوريا عائدة، ستعود حتى لو ذهبنا نحن. سيكون هناك من يقوم بالعمل، فالمشروع مفتوح.
■ أين أصبح مشروعك النهضوي، ما الذي تبقى منه؟
منذ سنة بدأت أنكب على كتابة نمط من أنماط التفكير المستقبلي. وضعت فكرة أولية انطلقت فيها من أولئك الذين يهاجرون إلى أوروبا وآسيا. هؤلاء بحثوا عن الخلاص، لكنهم الآن متهمون بأنهم ملوثون بالإسلام إن لم يكونوا مسلمين. إن «داعش» لم يأتِ من فراغ، «داعش» أُسس له عالمياً. الخلاص منه يعني إعادة بناء العالم وهو حلم جديد تماماً. الحالمون الآخرون كانوا يحلمون أن يحدث شيء ما في بلدانهم. الآن امتد الحلم الى العالم كله. لن نستطيع أن نفعل شيئاً، إلا إذا كان العالم يسير مسيرة قد تؤدي إلى خلاص، وهنا ليست هناك حتميات مطلقة. هؤلاء الذين يقاتلون «داعش»، عليهم أن يعرفوا أنّهم يقاتلون «نتيجة» تمثلت في بناء وُجد في عالم قائم على العنف والفساد والاستبداد. «داعش» مشكلة عالمية ولدت في أوروبا، لكن سوريا حرّضت على ظهورها. هذه فكرة جديدة. إن إعادة بناء البشرية، حلم بشري جديد. لقد امتد من سوريا الى العالم وعاد من العالم الى سوريا وهذا هو مشروعي، أكتبه الآن.
■ دكتور، هل أنت غاضب أم محبط أم يائس؟
لست غاضباً ولا محبطاً ولا يائساً أبداً، كل الأمل أملكه، سوريا ستدافع عنها البشرية بأكملها. بمجرد أن ينتهي زمن الحرب، سيعيد أبناء سوريا بناءها. إننا نسعى الى هذه اللحظة، لحظة إعادة البناء. أعتقد أننا كنا كلنا خاسرين وما زلنا حتى الآن خاسرين، لم يربح أحد منا، حتى أولئك الذين راهنوا على الحرب خسروا لأنهم خسروا سوريا. سوريا الآن تئن، تبحث عن خلاص.