جاك الديري الثائر الذي كذّب روايات نظام الأسد
أحمد طلب الناصر
جاك جورج العبدالله.. شهيد الأقلية الديرية، الأكثرية المنسية !
“الكواكبي” تلك المكتبة المتربعة في وسط شارع “حسن الطه” بدير الزور، أكثر الأسواق حيوية في المدينة، لا تستطيع تجاهلها وإن تقصّدتَ ذلك.. تملأ واجهتها الزجاجية العديد من رسومات ناجي العلي وعلي فرزات الكاريكاتيرية ذات الطابع السياسي الساخر من الأنظمة العربية بشكل عام، والنظام السوري على وجه الخصوص، في زمن هيمنة مخابرات نظام الأسد الأب في سوريا منذ ما لا يقل عن ثلاثة عقود من السنين العجاف.
صاحب ومالك هذه المكتبة “جاك جورج يعقوب عبدالله”، أبو عبدالله كما كنا نناديه، المسيحي السرياني الذي عاش سنوات حياته السبعين في مدينة الدير. أورثه والده في شبابه محلّاً لتجارة وبيع الأقمشة لكنه رفض وأبى إلا أن يعمل في المجال الثقافي الذي يحب، وقضى حياته بأكملها في بيع الكتب الأدبية والتاريخية والسياسية والعلمية، تقسيطاً في بعض الأحيان، وفي معظم الأحيان بالمجان! وكانت جملته المشهورة التي يلقيها على من يدخل مكتبته: لا يهم النقود، المهم أن تقرأ.
جاك السياسي:
كانت خلفية جاك السياسية يسارية وقريبة من فكر القوميين العرب، ورافق معظم معتنقيها من أبناء الدير والمدن الأخرى، أذكر منهم على سبيل المثال المناضل المرحوم المحامي بهاء الدين الركاض والمرحوم غصوب الشيخ عطية وغيرهما، إلا أنه رفض تأطير فكره بتنظيم حزبي مفضلاً العيش مستقلاً حرّاً لقناعته التامة بفراغية الأحزاب في ظل نظام البعث والأسد.
كان يرافق ويجالس كل من عارض النظام السوري على اختلاف ميوله الفكرية، شيوعيين وعروبيين وقوميين وحتى الإخوان المسلمين. ولا نبالغ إن قلنا بأنه كان من أوائل المعارضين المكشوفين للملأ، ولا يخفي معارضته أمام أحد قط ومن بينهم عناصر الفروع الأمنية الذين يتقصدون المرور والدخول إلى مكتبته بحجة شراء كتاب أو جريدة، وكان يعرفهم بالاسم، فيقوم بنهرهم وشتمهم وطردهم من المكتبة. كل هذا جعل من جاك من أكثر رواد فروع التحقيق والزنازين الأمنية في ديرالزور.
الإضراب ورصيف الجرائد:
في أواسط تسعينيات القرن المنصرم، وبينما يهم جاك بفتح مكتبته صباحاً، يفاجأ بعامل شركة الكهرباء مناولاً إياه فاتورة بقيمة 6400 ليرة سورية لقاء صرف االكهرباء في المكتبة خلال شهرين، في الوقت الذي كان جاك لا يستخدم سوى مصباحين من (النيون) فوق رفوف الكتب، مما أثار دهشته وغضبه فتوجّه إلى مديرية الكهرباء للاستفسار حول المسألة، فطلبوا منه تسديد قيمة الفاتورة ثم تقديم شكوى ليتم إصلاح الخطأ. لكن، وبعد أيام وأسابيع من المراجعات لم يحصل جاك على حقه، بل وأصرّ العاملون في الشركة بأن تأشيرة العداد صحيحة والفاتورة لا غبار عليها. وللعلم فإن ذلك المبلغ كان يتجاوز مرتب موظف من الدرجة الأولى في تلك الأيام!
على إثر ذلك قرر جاك قطع الكهرباء نهائياً عن المكتبة ونزع العداد من مكانه مستعيضاً بالشموع بدلاً عنها. وهنا بدأت رحلته الثانية في مراجعة فروع المخابرات في المدينة طالبين منه إعادة تشغيل الكهرباء بحجة أنه يحرّض المواطنين على مقاطعة مؤسسات الدولة، لكنه أصرّ على إضرابه مبرراً بالقول: نور رب العالمين يكفيني.
بعد بضعة أشهر من إضراب الكهرباء، وكثرة التقارير الأمنية، والذهاب والمجيء من فروع المخابرات، قام النظام بإغلاق مكتبته وختمها بالشمع الأحمر مشترطاً كتابة تعهد بإعادة الكهرباء والكف عن التعرض بالحديث عن رأس النظام وبيع الكتب والمطبوعات السياسية الغير مرخصة في مكتبته لمزاولة العمل فيها مرة أخرى، فرفض ذلك رفضاً قاطعاً وأجابهم: “لن أفتحها، ولن أدفع أي ضريبة للمالية أيضاً..”
قام بعد إغلاق المكتبة بافتراش رصيفها وتخصيصه لبيع الصحف والدوريات للمارين في شارع حسن الطه، بالإضافة إلى تعليق الرسومات الكاريكاتيرية نفسها على واجهة المحل من الخارج، وكلما وجد رسماً جديداً معبراً في أحد الصحف أو المجلات، أو على صفحات النت في السنوات الأخيرة، كان يقوم بطبعها وإلصاقها بجانب رفيقاتها، فكان الرصيف بحق معرضاً فنياً ثقافياً في الهواء الطلق.
نصف رصيف المكتبة كان مخصصاً لعرض الجرائد، والنصف الآخر كان لجلساته مع الأصدقاء، ومعظمهم مثله، نشطاء سياسيين سلميين، والبقية من الشباب الذين ينهلون من معرفته وثقافته رغم عدم إكمال تحصيله العلمي.
بعد توريث السلطة للأسد الابن، صار جاك يصدر نشرة خاصة تعنى بحقوق الإنسان مطبوعة على شكل كتيب بحجم اليد، عدد صفحاته لا يتجاوز الثلاثين صفحة، هي عبارة عن رصد لكافة انتهاكات النظام من عدة مواقع.. انتهاكات لم نكن نعلم بها في ذلك الوقت بسبب الوهم والاعتقاد أن عصر الابن يختلف عن عصر الأب في العقود الثلاثة العجاف السابقة. كنا نطلق على تلك النشرة تسمية “مرصد الكواكبي” أو منشور “جاك” كما يحلو لنا تسميته. وكلما صدرت النشرة كان جاك يطبع منها مئات النسخ، يقوم بطيها داخل كل جريدة يشتريها منه الأصدقاء النشطاء وهو يغمز بعينه مع ابتسامته الصارمة، ثم يقطع الدير من أقصى شرقها إلى غربها سيراً على الأقدام يوزّع منشوره على منازل الأصدقاء، وكل هذا دون مقابل، ويأبى أن يأخذ حتى كلفة الورق.
جاك عبدالله الإنسان:
لا نعرف بالتحديد يوم ميلاد جاك العبدالله، لكنه ولد عام 1946 في ديرالزور لأب كان يعمل بتجارة الأقمشة، يعرفه قدماء الدير، وبقي أبناء عمه “أفرام العبدالله” يعملون بهذه المهنة، ويعرفهم الصغير والكبير بمحلّهم الواسع الذي يتوسط سوق “ستة إلا ربع” الأكثر شهرة في المدينة.
له أخ وحيد يكبره اسمه ميشيل، وكان من البعثيين الأوائل، ومن شرفائهم، عمل عضواً في لجنة الإصلاح الزراعي..
“كان محترماً حتى من قبل الإقطاعيين في المحافظة لنظافة يده وأمانته..” كما ذكر صديق جاك الأستاذ سمير الدخيل.
بقي جاك عازباً طيلة حياته، نذر نفسه لخدمة قضيته بكل صبر وكد ومثابرة، بالإضافة للعناية وإعالة أختيه العجوزين اللتان لم تتزوجا أيضاً.
كان يشارك أهالي الدير في مناسباتهم المختلفة، وحين يتوجه لتأدية عزاء أحد أبناء المدينة المسلمين كان يدخل بيت العزاء وينادي، كما جرت العادة بينهم، لقراءة الفاتحة.
السياسي المعارض والناشط المتنوع والمعتقل المعذّب.. والشهيد:
نشط جاك في العديد من الجمعيات والمنتديات والمؤسسات السياسية والحقوقية، نذكر منها: منتدى ابن خلدون، منتدى الكواكبي، اللجنة الوطنية الديموقراطية بدير الزور، نصرة الشعب العراقي والفلسطيني، الجمعية السورية لحقوق الإنسان..
وكان لا يسمع باجتماع أو اعتصام أو نشاط حقوقي إنساني، أو سياسي معارض للنظام إلا ويشارك به في أي مدينة كانت منذ ما قبل قيام الثورة السورية. وحين اندلعت الثورة، كان من أوائل المشاركين فيها ويتقدم المظاهرات ويهتف مع الهاتفين “واحد واحد.. الشعب السوري واحد” و”ثورة مدنية.. إسلام ومسيحية”..
اعتقل منذ بداية الثورة مرتين، وحين اجتياح المدينة منتصف العام 2012، ورغم كل الدعوات إلى المسيحيين بمغادرة المدينة، ورحيلهم منها جميعاً، بقي أبو عبدالله في الدير ملازماً منزله في حي الرشدية الذي تعرض إلى أبشع أنواع التدمير ما أجبره لاحقاً للانتقال إلى حي الجورة البعيد عن قصف النظام والواقع تحت سيطرته حتى اللحظة. وهناك، بقي يواصل نضاله السلمي الثوري إلى أن ألقي القبض عليه في 4-11-2014 من قبل عناصر الأمن العسكري، الفرع الأكثر قذارة ووحشية بين أفرع أمن النظام السوري قاطبة، لتبدأ بعد ذلك رحلته مع التعذيب والتنكيل، فأصيب بالشلل في الشهر الأول لاعتقاله، وبقي صابراً معانداً حتى لحظة استشهاده في فرع نظام “حماية الأقليات” في 13-5-2015 لتطوى بعد ذلك صفحة أخرى من صفحات أعلام الدير وقاماتها. استشهد بعد أن سبقته كنيسته “الوحدة للسريان الأرثوذكس” التي قصفها نظام الأسد وشوّه أيقوناتها مثلما دمّر مساجد المدينة وشوّه شوارعها.
أبو عبدالله.. عاش واستشهد في المدينة التي أَحَب، واستحق منّا، نحن روّاد رصيفه، كل المحبة والتبجيل، ويستحق منّا أن نملأ رصيف “الكواكبي” بآلاف وملايين الزهور والشموع.. حين النصر والعودة.
مما ذكروه عن جاك:
سمير الدخيل:
“رجل شهم، تعرفه كل دير الزور و تحبه، عفيف جدا , حتى عند دعوته الى (الجرداق) وهو مطعم ومشرب يطل على ضفاف الفرات، لايقبل الا أن يدفع ..وهو نزق وحساس جدا في هذه القضايا.. رحمه الله، ومثلما مدينة ديرالزور، كان مهضوم حقه”.
هاني آصف الشويخ:
“أحببت مناداته بلقب شيخي، وخصوصاً عندما أحاوره بقضية ما، طلباً لرأيه، وكان يقابلني بابتسامة كلما سمع مني هذه الكلمة… كان مثقفاً أكثر من 99% من جامعيي مدينتنا .. بل ولو قارنته مع المثقفين الثوريين لرأيته في طليعتهم لأنه من القلة القليلة التي استطاعت تحويل المعطى الثقافي إلى واقع وأسلوب حياة… هو الآن شهيد الحرية التي نادى وطالب بها، لذا يشكل نموذجاً معاشاً لمن يؤمن بالقيم السامية ويترجمها وعياً وسلوكاً وبأسلوب غاية بالبساطة والعمق”.
الكاتبة سميرة البدران /اقتباس من قصة/:
“لسوء حظي اليوم أنني فكرت بشراء جريدة الفرات من مكتبة غير التي تعودت شراءها منها يومياً. وقفت .. تناولت عددين منها كالعادة مع الصحف المحلية الأخرى، ثم ناولت البائع عشرين ليرة واستدرت لأتابع طريقي فإذا به يمد يده بخمس ليرات صائحاً :
– خذي هذه الخمس وأعطني أربع ليرات !
ابتسمت : – أسامحك بالليرة .
وتابعت طريقي ، فإذا بصوته يهدر خلفي :
– هاتي الفرات وخذي نقودك .. لا أبيعها إلا بليرتين !!
فوجئت وخجلت . ناولته الصحف كلها ووقفت أنتظر. الشارع كان مكتظاً بالمارة،وكانت صحفه معروضة على طول رصيف مكتبته المغلقة لأسباب لازالت غير معروفة لدى الكثيرين ممن تعودوا ارتيادها..فقد كانت فيما مضى مكتبة تكتظ بالكتب القيمة… نظرت خلفي , فاكتشفتُ أنني لست وحدي .. فهناك مجموعة كبيرة تشاركني ذات القدر ,وتنتظر الإفراج عن صحيفتها ( الفرات ). انضممت إليهم.. تباحثنا في الأمر , وبعد جمع وطرح وقسمة، قررنا أن نقايضه ببقية (خمساتنا) جرائد يأخذها من يريد التزود بأعداد الفرات، وهكذا كان ,ففُكَّ أسْر الفرات أخيراً وأسْرنا معها .. ناولنا أعدادنا منها، وانطلق كل واحد منا في اتجاه ..
تساؤلات كثيرة مرت في الذهن وأنا أحاول استدراك الوقت الذي أضاعه عليَّ السيد النزيه المتذمر … في داخلي صخب ولدته ردود أفعال مسبقة لأفعال قد تحدث، تتصادم مشاعر كثيرة رداً على مواقف قد تجري نتيجة لوقتي الذي هدره بائع الصحف هذا ..وقفت، فصحفي التي اشتريتها منه ودفعت ثمنها، بقيت عنده .. سمعت صوته، نظرت خلفي فإذا به من بعيد ينادي : عودي، عودي .. فتابعت طريقي مسرعة خوفاً من اعتقال آخر أدفع ثمنه ماتبقَّى من دقائقي الثمينة، فيتخربط يوم و بالتالي شهر أوحتى سنة من حياتي !! جاك العبدلله …تستحق الشهادة ..يا صديقي”.
لن نبالغ إذا قلنا لكم بأن “أبو عبدالله” من أكثر الشهداء الذين بكتهم ديرالزور.
نشرت في موقع رؤية سورية ٢٠١٦