الشرق نيوز
لم تكن الثورة السورية عندما اندلعت شرارتها في عام ٢٠١١ حدثاً عادياً بل كانت حدثاً مزلزلاً تجاوز حدود الإستثناء. وإذا كانت حدود الاستثناء في الثورات أنّها تقلب السائد من المفاهيم و الأنظمة و النخب السياسية، فإنّ الثورة السورية كانت من منظور الدول الأقليمية الراسخة و العتيقة، و التي كانت بكل تأكيد تراقب الاحتجاجات منذ بدايتها و ترسم سيناريوهات تطورها و تأثيرها على الأقليم قبل الداخل السوري، وكذلك كانت الدول الكبرى و التي رسمت حدود تأثير الدول الأقليمية وتأثيرها ، تنظر إليها كمقدمة لتشكيل نظام دولي جديد عقدته سوريا. و في حين كانت الثورة بالنسبة للسوريين هي ضد الظلم و الطغيان فإنّ هذه الدول رأت فيها بداية تغيير جوهري في عقدة الشرق سوريا و التي تُمثل بتنوعها صورة الشرق المعقدة.
فما كان من هذه الدول إلا أنّها بدأت بتكتيك الوساطات مع النظام لإقناعه بالوصول لحلّ وسط قبل تفاقم الأمور، فكانت الوساطة سعودية أول الأمر و تبعتها تركية، و من نافل القول أن الوساطتين تعبران عن استراتيجية إثنين من أكبر الدول في الشرق الأوسط و نظرتهما لسوريا، فهي بالنسبة لتركيا للحؤول دون تطور الأمور في خاصرتها الرخوة مما يثير القضية الكردية، و هي بالنسبة للسعودية لمنع تفاقم للوضع والذي من الممكن أن يصنع بيئة أخصب لتدخل إيران و توسعها فإيران لا تتوسع الا نتيجة فوضى أو ثورة ضد حاكم عربي . و كلا الوساطتين كانتا قبل وساطة كوفي عنان و الإبراهيمي و قبل تشكيل نواة مجموعة أصدقاء سوريا، و لكن و كما هو ظاهر فإن قدر سوريا أن تتحول لمحرقة لكل وسيط و حتى لو كان أممياً، و الذي لن ينتهي بانتهاء ولاية دي مستورا.
بعد فشل المبادرتين السعودية و التركية، ما كان من النظام إلا ان صعّد القتل و القصف في مقابل تصعيد المظاهرات و الاحتجاجات، و في سياق تقارير إخبارية عن تدخل قوات موالية لايران في قمعها، و بعد إفشال روسيا لقرارات أممية منددة بجرائم النظام تداعت الدول الأوروبية و العربية لتشكيل نواة مجموعة أصدقاء سوريا التي عقدت أولى اجتماعاتها في تونس، و كانت هذه المجموعة غطاءاً سياسياً لإستراتيجية الدول المتدخلة في سوريا نتيجة لفشل وساطتها، و التي اضطرت لتفعيلها وفق مسارين؛ تسليح الثوار للضغط على النظام لفك ارتباطه بإيران و منع تمددها في سوريا مع مسار أممي بدأ بوساطة كوفي عنان، و هذا ما أدركته روسيا و إيران اللتان شكلتا حلفاً واحداً في سوريا و استراتيجية واحدة هدفها الحفاظ على النظام الضامن لمصالحهم.
و من هنا بدأ مشوار الوساطة الاممية متزامنا مع صراع بارد لم يكن فقط ضحيته السوريون إنما كان أيضا الوسطاء الامميون، و كان أولهم كوفي عنان، الذي استقال بعد شهور معلناً فشله.
و لم يتوقف مسار الوساطات الاممية هنا، فكان أن عينت الامم المتحدة وسيطاًعربياًجديداً و هو الأخضر إلابراهيمي و الذي استمر في جولاته المكوكية طيلة فترة ولايته ليستقيل بعدها معلنا فشله، و الذي عزاه في تصريح له لتعنت النظام و صراع الدول المتدخلة في سوريا بحثا عن مصالحها.
وبإلقاء نظرة كلية لمسار الثورة و الوساطة الأممية يمكن القول أن استقالة الابراهيمي، و بداية ولاية دي مستورا تشكل حدثاًمفصلياً في الثورة، فاستقالة الابراهيمي تبعت تهجير أهالي حمص القديمة، بينما تبع تعيين دي مستورا تدخل روسيا المباشر في سوريا و بداية استدارة تركيا تجاه ورسيا و ايراننتيجة الخلاف التركي الأمريكي حول الموقف من الأكراد و بداية مسار أستنة.
بعد الإبراهيمي تم تعيين دي مستورا الإيطالي الذي يتقن لغات عدة، و الذي بدأ وساطته في عام ٢٠١٤ و يمكن أن يقال أن هذا التاريخ مهم بقدر أهمية الاحداث السياسية التي بدأت بوصلتها تُرسم بمفاوضات الإتفاق النووي بين الدول الكبرى و إيران التي كانت تقترب من خواتيمها عدا عن اتفاقية لافروف كيري السرية التي كانت تشير لتغير ميداني كبير سيكون لصالح إيران في سوريا و المنطقة، و من هنا يمكن فهم سبب اختيار دي مستورا صاحب اللغات المتعددة و الوجوه المتعددة أيضا، فديمستورا السياسي الأوربي والذي كان وسيطاً في كثير من النزاعات والذي يملك مرونة تحتاجها الدول الكبرى لتضييع المبادئ الأخلاقية في خضم الصفقات الدولية. و علاوة على ذلك فإنّ بداية ولاية دي مستورا شهدت الحديث عن تغير في استراتيجبة إدارة أوباما اتجاه الثورة السورية بعد اقتراب تحقيق هدفه في جر إيران لتوقيع اتفاق نووي يبيّض وجهه أمام الناخب الأمريكي، فكان الحديث وقتها عن نيته توقيف أو تقليل الدعم للمعارضة السورية و هو ما صدقه الواقع.
مع بداية ولاية دي مستورا كانت بداية مأساة حلب و اتفاق كيري لافروف حول تسليم تركيا لملف الوساطة بين الثوار وروسيا في حلب و نهايتها باستقالة من غير نجاح. و بمتابعة بسييطة لأداء دي مستورا نعرف أنّه كان ميّالاً لمقاربة الوضع السوري من مبدأ أنّ ما يجري في سوريا في مستواه الأدنى صراع بين النظام و المعارضة و في مستواه الأوسط حرب على الإرهاب و في مستواه الأعلى صراع بين الدول، و المرشح للفوز فيه هو من يملك أوراق ضغط أقوى، و لذلك رأيناه كثيراً يميل إلى مقاربة الحل السياسي من منظور روسي يرى ضرورة قيام النظام بإصلاحات و مصالحات محلية و بذلك كان يتحمس كثيراً لمبادرات روسيا و يظهر بروداً عند الحديث عن جنيف. عدا عن تجاهله للوضع الانساني و عزوفه و بحجة البراغماتية عن إدانة الجرائم التي كان يرتكبها النظام، و ذلك بحجة الحياد و عدم إغضاب النظام و لا ننسى تدخله في تشكيل أطياف المعارضةومنصاتها التي ولدت على يديه ليتم إدخال أعضاء يرضى عنهم الجانب الروسي .
و يمكن القول أنّ دي مستورا اتخذ من الواقعية الباردة و من تبدل الواقع الميداني بعد سقوط حلب تحت سيطرة النظام و تفويض روسيا و مجموعة آستنة بالملف السوري حجة لميله لروسيا، و تهربه من الحديث عن الوضع الانساني و الجرائم الواضحة التي ترتكبها روسيا، و عزوفه عن الحديث عن وقف العنف كمقدمة للمفاوضات، وزاد على ذلك بإغراقه المعارضة بسلال أربع فارغات، و هي مشهورة و من يقرؤها يخيّل إليه و كأنّها محاضرات في الجامعة عن طبيعة الحكم و علاقة الدولة مع الشعب، بمبادئ مقطوعةومجتزأة عن واقع سوريا التي تتطلب جهوداً لوقف إرهاب النظام أولاً، و هذا ما ساهم بإضاعة جوهر القضية السورية و هي ثورة ضد النظام و إجرامه.
و اليوم و بعد سنوات من ولاية دي مستورا و من سبقه من المبعوثين الأمميين و السياقات السياسية التي تزامنت مع بدء ولايتهم، نتيقن أنّ تعيين دي مستورا كان مقصوداً فهو الأجدر في مثل هذه الظروف و تبدل استراتيجيات الدول و رغبتهم بإضعاف المعارضة و إقفال الملف السوري بصفقة أولها خروج إيران و ليس مهماً أن يكون آخرهها خروج بشار الأسد من السلطة، و إذا كانت بداية ديمستورا كافية لتدلّنا على أسلوبه و ما سيفرض عليه في وساطته، فإن ما يجري الآن من إنسحاب امريكي قد يخلف صراعاً و إشارات استفهام سببها إنسحاب أمريكا من الملف السوري لصالح مجموعة آستنة سياسياً و عسكرياً، يمكن أن يدلنا على أسلوب الوسيط الجديد الذي سيخلف دي مستورا و يمكن أن يصور لنا أيضا ما في سلاله الممتلئة بالمبادئ الجميلة شكلاً و الفارغة مضموناً.