نشوان الصالح
دير الزور وحملات المناصرة
في شتاء 2013-2014, عائداً إلى دير الزور بعد زيارة قصيرة إلى الرقة, اقترح أحد العائدين أن نشترك بسيارة (تاكسي) بدلاً من الحافلة, كانوا عائلة من خمسة أشخاص, هو وزوجته وابنته الشابة وطفل رضيع وريما, جلسوا في الخلف وحمل الطفل بحضنه وطلب مني الجلوس بجوار السائق بصحبة ريما ذات الثمان سنوات, هامساً في اذني: “انتبه إنها تخاف البنادق”, في إشارة منه للحواجز المنتشرة على الطريق.
جلست ريما بحذر وقلق على ركبتيّ, فكان لا بد من كسر حاجز الصمت بيننا لنمضي الرحلة بشيءٍ من الألفة, وبعد القليل من السرد عن حفيداتنا اللواتي يشبهنها اقتربنا من الحاجز الأول فتكورت في حضني واضعةً وجهها عل صدري, طالع العنصر بطاقاتنا وأعادها, ألقى نظرة في صندوق السيارة, ثم أغلقه وضرب عليه بيده: “الله معاكم”.
بعد أن مشت السيارة بقليل, أخبرتها أننا ابتعدنا, فعدلت رأسها قليلاً ونظرت بطرف عينها إلى زجاج السيارة, ولما تأكدت أننا ابتعدنا, رفعت رأسها وأطلقت زفرة الخلاص كما الكبار, سألتها لماذا تخافين منهم فظلت صامتة, هنا تدخل والد ريما ليشرح لي بأنها شهدت الحرس الجمهوري وهو يصف الشباب إلى الحائط كي يعدمهم, في ما عُرف لاحقاً بمجزرة الجورة والقصور خريف 2012.
أخذت أشرح لها بأن هناك أنواع من حاملي السلاح, وأن جيش النظام هو من يقتلنا, لذلك قام مجموعة من الشباب بحمل السلاح ليدافعوا عنا, وأننا نسميهم الجيش الحر, والحاجز الذي مررنا به كان للجيش الحر, “يعني معانا؟” قالت ونوع من الفرح في نبرة صوتها, “إي معانا” أجبتها, وأمضينا الطريق ونحن نتحدث عن بطولات الجيش الحر, وكلما اقتربنا من حاجز كانت تعيد نفس السؤال مع ابتسامة:”هذول معانا؟”, فأجيبها بذات الإجابة مع المزيد من التطمين : “إي معانا ويحبونا” , “إي معانا ويخافون علينا”, هكذا حتى وصلنا حاجز لأحرار الشام قبالة معبر “البغيلية” المؤدي إلى مناطق سيطرة النظام, ونحن نقترب منهم كان بعض العناصر يعتقلون يافعاً وينهالون عليه بالضرب, أخذوا منه جالوناً يحمله وهو يصيح : “أريد أعبي لأهلي مازوت وأرجع”, ارتعبت ريما وتقلصت في حضني مرةً أخرى, وسألتني بصوت منخفض: “هذول مو معانا ليش يضربونه؟”, أصابني الخرس ولم أجد مبرراً منطقياً, فأحرار الشام كانت تحاصر الجورة والقصور من جهة المعبر, بينما يتم تنظيم الدولة ذلك الحصار من جهة “عيّاش” وطريق الشام, الحصار الأول الذي انتهى باقتتال أحرار الشام وتنظيم الدولة أوائل 2014.
عبرنا الحاجز على مضضٍ وأنا أغطي رأس ريما بيديّ, نزلنا من “التاكسي” عند دوار الحلبية, انحيت لأسلم عليها, فطبعت قبلةً على خذي الأيمن مودعةً: “عمو مو كلهم معانا”, ومضت.
انتصر تنظيم الدولة على تحالف أحرار الشام – جبهة النصرة, وبسط سيطرته على كامل المناطق المحررة في دير الزور في تموز 2014, ومع مطلع 2015 فرض التنظيم حصاراً خانقاً على مناطق سيطرة النظام التي يُشار إليها بالجورة والقصور, وفي نيسان شن التنظيم هجوماً عنيفا استطاع بموجبه السيطرة على حاجز “جميّان”, وأقفل بالتزامن مع الهجوم جميع مقاهي الانترنت في مدينة دير الزور, مما أبعدنا عن العالم الخارجي.
في ظل هذا الغياب انطلقت حملة مناصرة بعنوان “معاً لفك الحصار عن دير الزور”, سمعتُ بها لاحقا من خلال زياراتي لبعض الأصدقاء في الريف, والذين يملكون خفيةً أجهزة انترنت فضائي, حينها لم أكن أعرف ما هي حملات المناصرة, ولم أتدخل سلباً أو إيجاباً في ظل ملاحقة التنظيم للبقية المتبقية من النشطاء والثوار في المحافظة.
في ظل الحملة التي حظيت بشبه إجماع ديري, انطوى مجموعة من النشطاء على بعضهم ليتحدثوا باسمها مع أشخاص فاعلين من أبناء دير الزور مقيمين في الولايات المتحدة, الذين استطاعوا بدورهم تأمين دعم على اسم الحملة, دعم للقلة القليلة المنطوية على نفسها, فقاموا بتأسيس مرصد حقوقي مستفيدين من الحملة والدعم.
في الشهر العاشر 2015, وبعد أن ازدادت تهديدات التنظيم, وصلت تركيا حيث استقبلني الأصدقاء الثوار الطيبون, ولم يمضي وقت طويل حتى استعدت النشاط في الخارج. ومع نهاية 2015 وبداية 2016 شن تنظيم الدولة هجوما عنيفاً على المناطق المحاصرة في دير الزور, فنشأت حملة مناصرة تلقائياً (لم أعد أتذكر اسمها), استطعنا من خلالها لقاء المدير الإقليمي للأمم المتحدة, الذي تفاجأ بأن النظام يحاصر المدنيين أيضاً ويمنعهم من الخروج إلا عبر مروحياته ليقبض ضبّاطه مبالغ هائلة وصلت إلى نصف مليون ليرة عن كل شخص, شرحنا له عن إمكانية إسقاط المساعدات جواً, الأمر الذي تحقق فعلاً, واستمر إلقاء المساعدات حتى فتح الطريق إلى دير الزور في أيلول 2017, لكن المفاجئ حينها أن المرصد الحقوقي, وبعد عدة أشهر من ترخيصه وعمله, كان يريد إقناع الأمم المتحدة بأن النظام يستقدم الطعام لجيشه وعناصره عن طريق طائرات “اليوشن”, تلك الطائرات التي لم تعد تهبط في مطار دير الزور منذ منتصف 2015, بسبب التهديد الناري لتنظيم الدولة, والمرصد لا يعلم.
مع مطلع 2017, وبالتزامن مع دخول الحصار عامه الثالث, اشتد القصف على كامل محافظة دير الزور, قصف من الطيران الروسي وطيران التحالف, فتجمع أبناء دير الزور وأطلقوا بيان يناشد الجميع لفك الحصار وتحييد المدنيين عن الصراع الدائر باسم الحرب على الإرهاب, ثم رأى الكثير من النشطاء أن الأمر يستدعي حملة مناصرة, وبعد نقاش طويل أطلقنا تصويت على (مجموعة عمل دير الزور), لاختيار اسم الحملة, فتفاجأنا بأن المرصد الحقوقي وشبكة إعلامية تعنى بدير الزور يستعدون لإطلاق حملة ممولة تخص مخيمات الشمال, وأثاروا لغطاً كبيراً في المجموعة, متذرعين بأن حملتهم جاهزة ولا يمكن تأجيلها, وفي محاولة منا لرص الصفوف أضفنا اسم حملتهم إلى التصويت الذي ينتهي بعد 24 ساعة.
في صباح اليوم التالي أطلق المرصد والشبكة حملتهما دون انتظار لنتيجة التصويت, فانطلقت مساءً حملة بوسم (على ضفتي الموت), ليضج الفضاء الافتراضي بحملتين خمّدت إحداهما الأخرى.
هنا لا بد من ذكر نوع ثالث من أبناء دير الزور, هؤلاء منتقدون متصيدي عثرات, بعضهم أخذ يسألنا عن خطة الحملة التي انطلقت بعفوية دون تخطيط, هؤلاء لم يشاركوا بالحملة لكنهم يعتقدون بأن لهم من الأهمية ما يؤهلهم لإدارة جميع شؤون دير الزور, وأنه لا يجوز تجاوزهم, لذا وجدوا منفذاً تقنياً يقللون عبره من شأن الحملة. دون الإفصاح عن مكنوناتهم. وبعضهم أخذ يقلل من شأن الحملة بأنها لم تصل للإعلام واسع الطيف من قبيل الجزيرة والعربية, لكن حين وصلت الحملة لهذه المرحلة, بدأ هؤلاء بالتشكيك والطعن بالأشخاص.
في خريف 2017 انطلقت حملة أخرى تسلط الضوء على مخيمات النزوح بعد أن اشتد القصف على محافظة دير الزور وانواع الموت هناك, فرحل أهلوها باتجاه مناطق سيطرة قسد التي فرضت عليهم العيش في مخيمات أقيمت في البادية, ولا تتمتع بأدنى مقومات الكرامة الإنسانية. لكن المرصد والشبكة تجاهلا الأمر تماماً على الرغم من أن الحملة قامت بجهود نشطاء مستقلين بعيدين عن التجاذبات, وذهب بعض المنتقدين إلى متعة فضح بعض الصور التي استخدمت بالحملة, صور لنزوح آخر لا يخص دير الزور, أو يخصها ولكن في وقت سابق, والتباهي بهذا الاكتشاف العظيم متجاهلين معاناة الناس هناك.
في الشهر العاشر من عام 2017, دخل النظام مدينة دير الزور, فالتجأ مجموعة من المدنيين مع مجموعة من مقاتلي تنظيم الدولة إلى حويجة كاطع, وهي جزيرة نهرية تقع شمال المدينة مساحتها لا تتجاوز 1.5 كم, فضج أبناء دير الزور بحملات لإنقاذ المدنيين المحاصرين هناك, وكان المنفذ الوحيد لهؤلاء هو مناطق سيطرة قسد على ضفة الحسينية, قسد التي أعلنت استعدادها لاستقبالهم إذا استطاعوا العبور, بينما تدير روسيا العمليات الحربية للسيطرة على الحويجة وقتل كل من فيها أو أسرهم, ومع استشعار البعض من النشطاء خطورة الوضع هناك, اختاروا أن تكون صيغة الخطاب مرنة تجاه قسد وروسيا, لعل الأمر يفلح بإنقاذ المدنيين, لكن حملات التخوين والاستعداء استعرت مرة أخرى, حملات تتهم هؤلاء النشطاء بمداهنة أطراف عدوة للثورة و الترويج لها, في حين يموت المدنيين تباعاً هناك في الحويجة, جراء القصف والجوع ونقص الرعاية الطبية, ويسلم المتبقي منهم نفسه لقوات النظام.
أبحث الآن عن ريما لأشرح لها كيف أن كل من شارك بحملات المناصرة ومن صعد على أكتافها ومن انتقدها ومن خوّن القائمين عليها ومن حاول إفشالها, من النشطاء والإعلاميين والثوار, هم معنا, وأفترض أنها كانت لتطبع قلبةً على خدي الأيسر, وربما كانت لتصفعني وهي تقول: “مو كلهم معانا يا عمو.. مو كلهم معانا”.
#ملاحظة ….المادة تعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس للموقع تبني وجهة نظر الكتاب او فرض وجهات نظر معينة عليهم