سوريا بين تحديات الماضي وآمال المستقبل: شروط العبور الآمن نحو الاستقرار.
تقرير: خالد المحمد
في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها سوريا، تتجه الأنظار إلى صياغة خارطة طريق تضع الأسس لانتقال سياسي مستدام يعيد بناء الدولة على أسس حديثة. يوم الأحد، 15 كانون الأول 2024، عقد مركز الصفوة للدراسات الحضارية عبر الإنترنت محاضرة بعنوان شروط العبور في الانتقال السياسي ألقاها الخبير الاستراتيجي القطري الدكتور جاسم سلطان. المحاضرة قدمت رؤية شاملة للتحديات القائمة وأولويات المرحلة القادمة، وهو ما تابعت تفاصيله صحيفة نيناربرس في التقرير التالي.
أولاً: سوريا عبر التاريخ… منطلقات أساسية:
لم تكن سوريا مجرد رقعة جغرافية، بل كانت على الدوام نقطة التقاء حضاري ومحورًا للصراعات الإقليمية والدولية. موقعها بين أربعة مسطحات جغرافية رئيسية جعلها في قلب التفاعلات:
1. من الجنوب، جزيرة العرب التي أثرت على سوريا عبر موجات الهجرة والتجارة.
2. من الشمال، الأناضول الذي نقل إليها تأثيراته الثقافية والسياسية.
3. من الشرق، الجبال الإيرانية التي شكّلت ميدانًا للصراع الفارسي-الروماني على النفوذ في الشام.
4. من الغرب، البحر الأبيض المتوسط الذي جعلها بوابة اتصال بين الشرق والغرب.
تاريخيًا،
كانت سوريا ساحة اشتباك ومفاوضات مع قوى إقليمية ودولية، مما رسّخ أهمية التفاوض كأداة أساسية للاستقرار.
ثانيًا: مربع التحديات السياسية والجغرافية:
في سياق التحديات الراهنة، يمكن تشبيه سوريا بمربع جغرافي وسياسي، أطرافه الأربعة تمثل مصادر الضغط الأساسية:
1. تركيا في الشمال: حيث تتصاعد التوترات بشأن القضية الكردية واللاجئين.
2. الأكراد في الشرق: مع مطالب الانفصال، يشكّلون تحديًا لوحدة الأراضي السورية.
3. إسرائيل في الجنوب: تحتل هضبة الجولان وتشكل تهديدًا مستمرًا للأمن القومي.
4. الساحل السوري في الغرب: حيث يتركز نفوذ النظام التقليدي، وهو محور التوترات بين الداخل والخارج.
هذا المربع الجغرافي يفرض على سوريا اتباع نهج تفاوضي يعالج التحديات بروح الواقعية والتوازن بين المصالح.
ثالثًا: النظام السابق… حلفاء وأزمات
اعتمد النظام السوري السابق على دعم محورين رئيسيين:
روسيا: التي استثمرت في القواعد العسكرية كطرطوس وحميميم لضمان نفوذها الإقليمي.
إيران: التي سعت لترسيخ وجودها من خلال دعم بري ومليشيات.
رغم نجاح هذا التحالف في تقويض الثورة، إلا أن التوازنات الإقليمية والدولية تغيرت، ما أدى إلى تراجع دور النظام لصالح اتفاقات دولية جديدة أبرزها بين تركيا وروسيا للتخلص من الأسد وحفظ مصالح الطرفين.
رابعًا: أولويات الانتقال السياسي
لعبور آمن نحو الاستقرار، تحتاج سوريا إلى تحقيق أولويات أساسية تشمل:
1. استعادة السيطرة على الأراضي وضبط السلاح: لضمان الأمن الداخلي ومنع الفوضى.
2. إعادة الخدمات الأساسية: مثل الكهرباء والماء والتعليم لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
3. إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية: على أسس وطنية تضمن احترام القانون وحقوق الإنسان.
4. تحفيز الاقتصاد: عبر مشاريع تنموية تعيد إحياء الإنتاج وتفتح قنوات التجارة.
5. معالجة التوترات الاجتماعية: من خلال تعزيز العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
خامسًا: دروس من إخفاقات الماضي
تُظهر التجارب السابقة أن الانتقالات السياسية غالبًا ما تفشل لعدة أسباب، أبرزها:
1. غياب الرؤية المشتركة: الخلافات حول هوية الدولة ومصالح الأطراف تؤدي إلى انقسامات داخلية.
2. ضعف البنى المؤسسية: غياب مؤسسات قوية يجعل الدولة عرضة للانهيار.
3. التدخل الأجنبي: يزيد من تعقيد المشهد ويؤجج الصراعات.
4. الضغوط الاقتصادية: التي تضعف قدرة الحكومات الانتقالية على الصمود.
سوريا بحاجة إلى استيعاب هذه الدروس لتجنب الفشل وبناء دولة قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية.
سادسًا: شروط العبور الآمن نحو الاستقرار
حدد الدكتور جاسم سلطان شروطًا استراتيجية لتحقيق انتقال سياسي مستدام، من أبرزها:
1. رؤية وطنية موحدة: تضمن الحد الأدنى من التوافق بين جميع الأطراف.
2. إصلاح الأمن والجيش: لبناء مؤسسات وطنية تحمي الاستقرار.
3. تعزيز العدالة الانتقالية: لإنهاء المظلوميات وتحقيق المصالحة.
4. إدارة المساعدات الدولية بحكمة: لضمان توجيهها نحو إعادة الإعمار الفعلي.
5. تنمية اقتصادية مستدامة: تحفّز الإنتاج وتوفر فرص العمل.
6. التوافق على الدولة المدنية: التي تضمن حقوق جميع الطوائف والمكونات.
حكمة الأولويات وآمال المستقبل
رغم عمق الجراح السورية وتراكم الأزمات، يبقى الأمل في العبور نحو مستقبل أفضل قائمًا على قدرة السوريين على التوافق وبناء دولة حديثة تعبر عن طموحات شعبها. إن تحقيق هذا الانتقال يحتاج إلى رؤية استراتيجية واضحة وترتيب الأولويات بعقلانية، مع إرجاء الملفات الخلافية إلى ما بعد استقرار الدولة.
سوريا، بتاريخها العريق وإمكاناتها البشرية والطبيعية، قادرة على النهوض مجددًا، شرط أن تتبنى دولة القانون والعدالة بعيدًا عن المحاصصات والصراعات الضيقة. وكما اختتم الدكتور سلطان محاضرته: “المستقبل تصنعه العقول والإرادات، وسوريا ليست استثناءً من هذه القاعدة.”