السودان، كنز افريقيا المدفون .. الحرب وتداعياتها الاقتصادية..
د. محمود عبدالعال فراج..
الشرق نيوز
قد يبدو للوهلة الأولى أن عنوان المقال يفتقد للتناسق فما علاقة الكنز بتداعيات الحرب الدائرة منذ ما يقارب الخمسة أشهر إلا أن مفتاح المقال يتضح وبصورة جلية في عنوانه فطالما كان السودان بمثابة كنز مدفون لم يستكشف بعد ولم يتم نفض الغبار عن هذا الكنز ، يُشار عادةً إلى السودان بأنه “كنز أفريقيا المدفون” بسبب الثقافة الغنية والتراث التاريخي الذي يحمله ولما لموقعه الجغرافي من أهمية كبرى للدخول والولوج للقارة السمراء وما يحتويه هذا البلد الكبير من موارد اقتصادية قد تجعل منه من أغنى دول العالم دون مبالغة في ذلك، فالسودان يعد موقعًا ذا أهمية كبيرة من الناحية الثقافية والتاريخية، ولديه تاريخ طويل يمتد لآلاف السنين، ولفهم أسباب الحرب الدائرة حالياً أو ما شهدته من نزاعات وحروب مختلفة لابد أن نعود للوراء قليلاً وتحديداً للحقبة الاستعمارية فكثير من المؤرخين يعزون استعماره لمجموعة من الأسباب التاريخية والاقتصادية والاستراتيجية، وذلك بسبب وجود مصالح اقتصادية وتجارية للدول الاستعمارية، تمثلت هذه المصالح في استغلال الموارد الطبيعية والزراعية الموجودة في السودان، مثل القطن والذهب وغيرها من الموارد الطبيعية والزراعية إضافة إلى الموقع الاستراتيجي الهام بالنسبة للدول الاستعمارية، حيث كان يعد ممرًا مهمًا للتجارة والنفوذ نحو إفريقيا والشرق الأوسط. لذلك، سعت الدول الاستعمارية إلى التحكم في هذا الموقع والسيطرة على القواعد البحرية والموانئ..
قبل أن نشرع في تحليل الوضع الحالي في السودان مآلات وتداعيات الحرب الدائرة لابد من ملاحظة أنه ووفقًا لبيانات قاعدة البيانات الاقتصادية العالمية، كان الاقتصاد السوداني يحتل مكانة متواضعة على مستوى العالم. في عام 2021، تقديرات الناتج المحلي الإجمالي للسودان كانت تصنفه ضمن أحد أقل الاقتصادات حجمًا في العالم ، إذن كان الوضع الاقتصادي بالسودان يعاني نتيجة للعديد من الأسباب أهمها:
– عدم الاستقرار السياسي الذي يكتنف البلاد منذ استقلاله وتعاقب العديد من الحكومات على إدارته وافتقار تلك الحكومات لمقومات الإدارة الحكيمة بالإضافة إلى تفجر العديد من النزاعات المسلحة إبتداءً من حرب الجنوب مروراً بالنزاع في إقليم دارفور وعدم الاستقرار النسبي في شرق السودان، فتأثير هذه النزاعات المسلحة كان له العديد من النتائج أهمها هو تدمير وضعف البني التحتية وتراجع الإنتاج والزراعة وتدهور الاقتصاد الوطني وارتفاع التضخم وعدم الاستقرار النقدي.
– التأثير السلبي على التعليم والصحة كما أثرت على حركة التجارة وتداول السلع وفاقمت من الديون الوطنية نتيجة للإنفاق العسكري على هذه الحروب، فالحروب لها تأثيرات اقتصادية كبيرة.. تشمل هذه التأثيرات تدمير البنية التحتية، وتقليل الإنتاج، وارتفاع التكاليف العسكرية، وزيادة الديون الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي الحروب إلى اضطرابات في سوق العمل، وتقليل الاستثمارات، وتهجير السكان، مما يؤثر على الاقتصاد بشكل عام.
إن الحروب التي شهدتها السودان على مر العقود كان لها أسباب متعددة ومعقدة. بعض أهم الأسباب التي ساهمت في حدوث النزاعات والحروب في السودان تشمل التنافس على الموارد والتمييز العرقي فلا ينكر عاقل أن السودان عانى وبشكل كبير من الصراعات العرقية ، بالإضافة للمطالبات المتعددة بضرورة التقسيم العادل للثروة والسلطة والتدخلات الخارجية التي أثرت بشكل كبير في نشوب العديد من الصراعات ولعل امتداد الوطن السودان ومجاورته للعديد من الدول الافريقية والتداخل في الحدود ووجود قبائل مشتركة بين السودان وهذه الدول قد أثر وبشكل كبير في تزكية الصراع والتدخل من هذه الدول لضمان عدم استقراره وهذا ما أدى بدوره إلى فرض عزل إقليمي نتيجة هذه الصراعات الإقليمية كما أن وجود العديد من المشكلات الاقتصادية مثل ارتفاع معدلات الفقر وزيادة معدلات البطالة قد ساهم في ضعف الاستقرار الاجتماعي وزادت من حدة الصراع داخل الوطن وأدت إلى موجات نزوح كبيرة من الأقاليم التي شهدت نزاعات مسلحة إلى المدن الكبرى بالسودان بشكل عام والخرطوم العاصمة بشكل خاص ،هذا ما ساعد في زيادة الشعور بوجود فوارق طبقية واجتماعية وتعليمية بين مكونات المجتمع السوداني ، ولعل ذلك كان من أبرز مشاهدات الحرب الواقعة حالياً فاصبحنا نشهد العديد من المشاهد في احتلال منازل المواطنين من قبل المليشيات العسكرية والتباهي أمام الكاميرات ووسائل الإعلام بأن ذلك من ابسط حقوقهم التي حرموا منها وهذا ما يجافي الحقيقة تماماً، فالسودان بطبيعته الجغرافية الممتدة لمئات الآلاف من الكيلومترات وبسبب أوضاعه الاقتصادية المتدهورة نتيجة الإدارة الحكومية السيئة لموارده شهدت العديد من المناطق الجغرافية ضعفاً تنموياً كبيراً وشمال السودان وشرقه والعديد من المناطق الأخرى خير برهان على ذلك.
إن السبب الرئيس في الحرب التي تجري حالياً بالسودان هو وجود أكثر من قوة عسكرية واحدة خلاف قوات الشعب المسلحة والذي كان مبرر وجود تلك القوى العسكرية هو السيطرة على النزاعات التي تفجرت في السابق في مناطق جغرافية متعددة في السودان بالرغم من اعتراضنا على هذه المسببات إلا أنها أصبحت أمر واقع كان مشاهداً قبل تفجر التمرد العسكري الحالي ، إن وجود جيوش متعددة في دولة واحدة يؤثر سلباً على العملية الاقتصادية والتنموية في العديد من الجوانب منها تكرار الإنفاق على الجيش والدفاع مما يستنزف الموارد المالية والاقتصادية التي يمكن استخدامها في مشاريع تنموية أخرى كما أن وجود أكثر من جيش أدى إلى تبديد الموارد البشرية والمالية في المجالات العسكرية والأمنية، بدلاً من توجيهها نحو القطاعات الاقتصادية والاجتماعية وزاد ذلك من حدة التوترات الأمنية والصراعات الداخلية، مما يؤثر سلبًا على مناخ الاستثمار والنمو الاقتصادي ، كما أن وجود أكثر من قوة مسلحة في السودان أدى إلى صعوبة في التنسيق بين الجهات المختلفة، مما يؤثر على قدرتها على تحقيق أهداف مشتركة مثل الاستقرار والتنمية وزاد من صعوبة السيطرة على القوات العسكرية وقراراتها، مما قد يؤدي إلى عدم التوجيه الفعال للجهود العسكرية والأمنية، وبالتالي فإن تأثير عدم الاستقرار الأمني والتوترات الداخلية يمكن أن يؤدي إلى تدهور المناخ الاستثماري وتراجع الثقة بين المستثمرين في بعض الحالات، اضف إلى ذلك أن وجود أكثر من جيش تسبب في زيادة انتهاكات حقوق الإنسان والاستخدام المفرط للقوة، مما يؤثر على السمعة الدولية ويقلل من التعاون الدولي.
بعد أن استعرضنا مسببات ونتائج الحرب في السودان، يتبادر إلى الذهن سؤال هام كيف يمكن لهذه الحرب أن تضع أوزارها؟
الحقيقة أن هذا السؤال يحتاج إلى بلورة حلول منطقية واستلهام تجارب مشابهة كتجربة دولة رواندا في الخروج من آثار الحرب الأهلية التي كانت تجربة استثنائية وقد تميزت بتقديم جهود مكثفة للتعافي وإعادة البناء فعملت على إعادة اللُحمة والمصالحة الوطنية والتركيز على التنمية الاقتصادية وتطوير القطاعات الاقتصادية المختلفة وتنمية القطاع الصحي والتعليمي وإعادة بناء البنية التحتية للدولة ومحاربة الفساد وتعزيز الشفافية بالإضافة إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية وفق ضوابط محددة وتخفيف الإجراءات البيروقراطية وزيادة التعاون مع المجتمع الدولي والهيئات الإقليمية للحصول على دعم مالي وتقني لدعم عملية إعادة البناء هذه الجهود ساهمت في تحقيق تحسن كبير في وضع رواندا بعد الحرب الأهلية، على الرغم من التحديات الباقية تبقى تجربة رواندا مثال حي على أهمية الإصرار والقيادة الحكومية والتعاون الدولي في تجاوز تداعيات الحروب الدامية، كي يخرج السودان من تداعيات هذه الحرب المدمرة فعليه العمل بجد وبعد انتهاء الحرب عاجلاً أو آجلاً على ترتيب الأوضاع من خلال إعادة بناء البينة التحتية المدمرة وإعادة هيكلة الديون المحلية والخارجية وفق شروط ميسرة غير مرهقة والقيام بالعديد من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية وتعزيز التعاون الدولي والابتعاد عن سياسة المحاور الإقليمية والتركيز على عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمل على استقلال القرار السياسي السوداني بعيداً عن سياسة التجاذبات والعمل على تشجيع الاستثمار فالسودان لديه المقومات ليكون وحش اقتصادي كبير لما يملكه من قطاعات اقتصادية واعدة في السودان، حيث يتميز بوجود عدة قطاعات اقتصادية يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في النمو والتنمية فالزراعة هي قطاع رئيسي لأنها تسهم في توفير فرص عمل كبيرة وتوفير الغذاء والسلع الأساسية التي تعد بمثابة العامل الأساسي للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، كما يلعب قطاع التعدين دوراً ملموساً في السودان لتوفير فرص الاستثمار ويسهم في تنويع مصادر الإيرادات حيث يحتضن السودان موارد معدنية كبيرة مثل الذهب والكروم والحديد بالإضافة لقطاعات أخرى كقطاع التجارة الذي يمكن أن يؤدي دوراً محورياً في عملية إعادة الاعمار لما لموقع السوداني الجغرافي من أهمية استراتيجية كنقطة التقاء بين جنوب القارة وشمالها وباعتباره معبراً مائياً هاماً للقارة الآسيوية ، كما يمكن لقطاع النقل البري والبحري والجوي أن يلعب دوراً هاماً في عملية التنمية إن أحسن استثماره وتوجيه الفرص الاستثمارية الواعدة في هذا القطاع ، كما يمكن أن يكون السودان مزاراً سياحياً لما يتميز به من طقس معتدل ووجود العديد من الآثار والمواقع الأثرية المهملة على مدى العصور بالإضافة إلى قطاعات أخرى كالخدمات المالية والتكنولوجيا والصناعات العسكرية كل ذلك إذا تم تعزيز وتطوير هذه القطاعات بشكل فعال، فيمكن للسودان أن يحقق نموًا اقتصاديًا أكبر وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين.
إن ذلك يتطلب وجود قيادة حكيمة قادرة على فهم واستيعاب مقدرات السودان الاقتصادية الهائلة التي يتمتع بها والعمل على تحسين صورة البلد أمام العالم بأسره ، والاعتماد على الموارد البشرية الهائلة التي يتمتع بها السودان فالسودان يضم العديد من الكفاءات البشرية التي يشهد لها القاصي والداني وتجارب العمالة في الخارج خير دليل على ذلك ، كما أن وجود أراضي زراعية هائلة ، وموارد مائية متعاظمة والعديد من الموارد الطبيعية التي حبا بها الله السودان كفيلة بإخراجه من صورة رجل افريقيا المريض ليكون كنز افريقيا المتوهج إن تم اختيار كفاءات وطنية حكيمة قادرة على التعامل مع الوضع الاقتصادي والتنموي ما بعد الحرب وفي هذا السياق لابد أن تتصف تلك القيادة الحكيمة بالعديد من السمات والصفات أهمها أن تهدف إلى تعزيز المصالحة وبناء الوحدة الوطنية من خلال تشجيع الحوار والمصالحة بين مكونات المجتمع ، ويجب أن يكون لديها رؤية واضحة لإعادة بناء الدولة وتحقيق التنمية المستدامة من خلال وضع الخطط الاستراتيجية التي تستهدف التعافي الاقتصادي والاجتماعي وبما يساهم في تحقيق الأهداف المرجوة ، وأن تحقق تلك الإدارة الشفافية في الإدارة ومكافحة الفساد لإعادة بناء الثقة بين الحكومة والشعب وأن تعمل على تحقيق الحكم الرشيد وتعزيز مفهوم حقوق الإنسان وحكم القانون وذلك يساهم ويساعد في بناء دولة قوية ومستدامة. تلك الخطوات تعكس جزءًا من الجهود الممكن اتخاذها للتعامل مع تداعيات الحروب الاقتصادية وبناء مستقبل اقتصادي أكثر استدامة ويمكن أن تستفيد القيادة من تجارب البلدان الأخرى التي تعافت من حروب أهلية لتجنب الأخطاء والاستفادة من أفضل الممارسات.
ان تجربة إعادة الإعمار الاقتصادي بعد الحرب تعتمد على الظروف الفريدة لكل بلد ونطاق التدمير الذي لحق بالاقتصاد الذي نحسبه كبيراً في الوضع السوداني تحديداً لنظراً لهشاشة الوضع الاقتصادي بالسودان قبل الحرب ووجود العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي كانت تحيط بالمشهد قبل اندلاع الحرب ومع ذلك، هناك بعض النقاط العامة التي يمكن أن تشمل تلك التجربة ومنها وجود خطة واقعية لإعادة الاعمار تراعي الظروف الاقتصادية للسودان والظروف الإقليمية والدولية التي تحيط به والاستفادة من الموارد المتوفرة لإنجاح خطة الاعمار تلك ، كما أنه ولضمان أن تكون الخطة فعالة لابد من التركيز على القطاعات الاقتصادية المفتاحية التي يمكن أن تسهم بشكل مباشر في عملية إعادة التنمية ويجب التركيز وبشكل أساسي على إعادة إعمار البنى التحتية من خلال التعاقد مع شركات عالمية لإنشاء وإعادة أعمال الطرق والجسور والمطارات والموانئ التي دمرتها الحرب من خلال تعاقدات تراعى الظروف المالية لبلد خارج من الحرب من خلال الاتفاق على عقود البناء والتشغيل والتحويل المشهورة باسم (BOT) والتي يجب ولضمان موافقة الشركات العالمية على مثل العقود أن تتوفر عوامل الثقة بينها وبين القيادة الحكيمة التي اشرنا اليها آنفاً من خلال استقطاب الكوادر المهنية لتشكيل حكومة مستقبلية ذات تكوين خاص يراعى أن تكون حكومة انتقالية تسهم في أن تتطور الأمور في عدة نواحي اقتصادية واجتماعية وسياسية وأن تحظى تلك الحكومة باجماع وتوافق وطني مجتمعي واسع ، وأن تعمل خطة الاعمار على تعزيز فرص العمل والاستقرار السياسي وأن تعمل على تقديم الدعم اللازم للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتبر المحرك الرئيسي لاقتصاد دولة كالسودان تجربة إعادة الإعمار تحتاج إلى إرادة قوية من القيادة المحلية، وجهود مشتركة من جميع الجهات المعنية، والتعاون الدولي لتحقيق النجاح في تجاوز آثار الحرب وبناء مستقبل أكثر استدامة وازدهارًا ، كما أن تأهيل القطاع المالي والمصرفي بعد الحرب يعد جزءًا أساسيًا من عملية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال تقييم الأضرار التي اصابت القطاع المالي والمصرفي لوضع خطة مناسبة لتصحيح أوضاعه وكذلك إعادة ضبط السياسة النقدية والمالية لتحسين الاستقرار المالي والنقدي من خلال وضع سياسات حكيمة وبالتالي القدرة على رصد ومعالجة معدلات التضخم التي شكلت معاناة كبرى للشعب قبل الحرب ، كما يجب إعادة هيكلة القطاع المصرفي لتعزيز الشفافية والمرونة وإعادة الثقة في الجهاز المصرفي السوداني التي افتقدها لفترات زمنية طويلة وذلك لا يتأتى إلا من خلال وجود إعادة هيكلة صحيحة والتوسع في عمليات الدمج بين المصارف والبنوك المختلفة لخلق وحدات مصرفية عملاقة والاهتمام بالكيف وليس عدد مؤسسات الصيرفة في البلاد ، كما يجب العمل على تطوير البنية التحتية الرقمية التي ستعمل على تحسين خدمات القطاع المالي والمصرفي، مثل التحويلات المصرفية الإلكترونية والخدمات المصرفية عبر الإنترنت والعمل على توفير التمويل والائتمان لتغطية وسد الحاجة للتمويل اللازم لإعادة بناء المؤسسات المالية وتمويل مشاريع التنمية. قد يتطلب تأهيل القطاع المالي والمصرفي تنظيم وتعديل القوانين واللوائح لضمان عمل فعال ومنصف.
إن الفترة الزمنية اللازمة لإعادة الإعمار تتوقف على معرفة حجم الدمار الذي أصاب البنية التحتية والمرافق الأساسية وهذا متوقع من خلال مشاهد الحرب الحالية فان ذلك واقع فعلياً ، فإن عملية الإعادة ستكون أكثر تعقيدًا وستستغرق وقتًا أطول كذلك لابد من معرفة والتأكد من مدى استقرار الوضع الأمني فان استمرت حالات العنف وعدم الاستقرار والانفلات الأمني والعسكري بعد انتهاء النزاع العسكري، فإن ذلك قد يعوق جهود إعادة الإعمار ويطيل الفترة الزمنية المطلوبة وهذا ما يتطلب وجود إرادة سياسية ومجتمعية لتحقيق السلام فإن وجد ذلك فقد يساعد في تسريع عملية إعادة الإعمار ، كما أن المساعدات الدولية والإقليمية غير المشروطة قد تلعب دوراً محورياً في العملية ، كل تلك المتطلبات مشروطة بتوفر الموارد البشرية والكفاءات لأن عملية اقناع تلك الكوادر للعمل في منطقة النزاع قد يواجه تحديات ضخمة تحتاج لمعالجات حكومية قادرة على تعزيز استقرار وضمان الكوادر البشرية فإن توفر الأمان والأمن لهم فإن ذلك يساعد في عودة طوعية لتلك الموارد البشرية ومن ثم مساهمتها في عملية إعادة الإعمار بشكل عام، يمكن أن تستغرق عملية إعادة الإعمار في الدول التي تشهد حروب أهلية سنوات عدة، وقد تمتد لعقود في بعض الحالات الأكثر تعقيدًا، حيث تعتمد الفترة الزمنية على تفاعل العوامل المذكورة أعلاه وغيرها، وعلى الجهود المشتركة من قبل المجتمع الدولي والحكومات.
يتساءل البعض ما هو شكل الحكم في السودان بعد الحرب؟ ،هل يمكن أن تكون هناك حكومة ديمقراطية منتخبة من الشعب بعد الحرب مباشرة؟ ، الإجابة قطعاً وفي ظل الوضع الراهن لا وبكل تأكيد ، حيث اشرنا في موضع سابق إلى انه يجب ان تكون هناك حكومة كفاءات تحظي بتوافق وطني تسهل الوصول إلى الحكم الديمقراطي بعد فترة يتم الاتفاق عليها من خلال استفتاء شعبي يشارك به كل مكونات الشعب السوداني لتحديد شكل وفترة القيادة الحكيمة بعد انتهاء الحرب ووضع اوزارها ، الا أنه يجب أن الديمقراطية وعملية إعادة الإعمار لهما علاقة وثيقة، حيث يمكن أن تسهم الديمقراطية في تعزيز عملية إعادة الإعمار وتحقيق نتائج أفضل، ذلك أن الديمقراطية تشجع على التشاور والمشاركة المجتمعية في صياغة وتنفيذ خطط إعادة الإعمار وهذا يمكن أن يساهم في تحديد الأولويات وتلبية احتياجات السكان المحليين بشكل أفضل ، كما أن النظم الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان وتعزز العدالة الاجتماعية تسهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، مما يخدم بشكل إيجابي عمليات إعادة الإعمار، كما أنها تشجع على نظم حكومية فعالة وشفافة، وتعزز من جهود مكافحة الفساد وهذا يؤثر إيجابيًا على استخدام الموارد المالية والموارد الاقتصادية في عمليات إعادة الإعمار، وتحقق توازن أكبر بين مختلف القطاعات والمناطق، مما يضمن توزيع عادل للموارد وفرص النمو، الديمقراطية تشجع على وضع استراتيجيات تنموية مستدامة تأخذ في عين الاعتبار احتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية كما أنها تساهم في تحقيق السلام الداخلي وتقليل احتمالات حدوث نزاعات وصراعات جديدة، مما يخدم استقرار عمليات الإعمار.
على الرغم من الفوائد التي تقدمها الديمقراطية، يجب أن يتم تطبيقها بشكل صحيح وملائم وفقًا للسياق الثقافي والاقتصادي للدولة المعنية. تتعاون العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحقيق عملية إعادة إعمار ناجحة تعتمد على تعزيز مبادئ الديمقراطية والعدالة. المعنية بتسريع عمليات إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار.
نأتي إلى أكبر معضلة واجهها السودان الحديث بعد الاستقلال وهو ما دور الجيش والأحزاب في عملية إعادة الإعمار بعد الحرب وذلك يعتمد على السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وعلى العلاقة بين هذين الجانبين فيجب أن يقوم الجيش في توحيد القوي العسكرية المختلفة تحت لوائه دون شروط مسبقة من هذه القوي العسكرية وأن يقوم بدوره في الأمن والاستقرار حيث يُعد ذلك أمرًا أساسيًا لنجاح عملية إعادة الإعمار، ويمكن للجيش أن يسهم في تحقيق هذا الهدف من خلال توفير حماية للبنية التحتية والموارد الحيوية ومنع حدوث أعمال عنف جديدة ، يمكن للجيش أن يلعب دورًا في تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية للمتضررين من الحرب، وذلك من خلال توزيع الإمدادات وتقديم الرعاية الصحية والإسكان للنازحين واللاجئين وأن يساهم في عمليات إعادة الإعمار من خلال المشاركة في إعادة بناء البنية التحتية وتوفير المساعدة الفنية والهندسية ، اما الأحزاب والكتل السياسية المختلفة فلها دورًا مهمًا في صياغة السياسات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تسهم في إعادة الإعماربأن تسعى لتحقيق التوافق على أولويات الإعمار والتنمية، والمشاركة في الحوار والمفاوضات لتحقيق السلام والاستقرار وتسهيل عملية إعادة البناء وأن تعمل على تطوير برامجها وكوادرها بحيث تكون قادرة على لعب دور محوري في مستقبل السودان الاقتصادي والسياسي وأن تتفق فيما بينها على كيفية وتدوير السلطة بين مكونات القوى السياسية المختلفة ، وأن تلعب دورًا في مراقبة أداء الحكومة في عملية إعادة الإعمار وضمان توجيه الموارد بشكل فعال وشفاف.
من المهم بمكان أن يتم تنسيق جهود الجيش والأحزاب والمؤسسات الحكومية والمجتمع المدني في عملية إعادة الإعمار، وأن تتم المراعاة للأولويات والاحتياجات المتعددة وتحقيق توازن بين التطلعات المختلفة لضمان تحقيق نتائج إيجابية للمجتمع بأكمله.
إن مستقبل السودان الاقتصادي يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. على الرغم من التحديات الحالية، هناك إمكانيات لتحقيق نمو اقتصادي مستدام وتحسين معيشة السكان في المستقبل ، من خلال تعزيز الاستقرار السياسي والديمقراطية وحقوق الانسان ، وأن يتم العمل على تنويع الاقتصاد بعد الحرب لضمان تنوع إيرادات الدولة من العملات الصعبة ، وتطوير البنية التحتية النقلية والمدنية بما يسهم في تيسير الأعمال التجارية وجذب الاستثمارات وتعزيز القطاعات الاقتصادية الواعدة مثل الزراعة والتعدين والسياحة قد يساهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام، توفير بيئة استثمارية ملائمة من خلال تحسين مناخ الأعمال وتقديم حوافز للشركات المستثمرة يمكن أن يجذب استثمارات جديدة، وتوسيع فرص التجارة مع الدول المجاورة وتحسين الاندماج في الاقتصادات الإقليمية والعالمية يمكن أن يساهم في تعزيز النمو، وتوجيه الاستثمارات العامة نحو مشاريع تنموية استراتيجية يمكن أن يساهم في تعزيز البنية التحتية وتحسين الخدمات الأساسية.
على العموم، تحقيق مستقبل اقتصادي مزدهر يتطلب جهودًا مشتركة من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، بالإضافة إلى دعم من المجتمع الدولي، فإن تضافرت تلك الجهود فإنها كفيلة لاستعادة السودان دوره المحوري كقناة وصل بين الحضارات والمناطق الجغرافية المختلفة وسوف يعود يوماً ما إلى كونه كنز افريقيا المتوهج والمضيء وسوف يكون قبلة ووجهة استثمارية تتوافر بها كل فرص الأعمال الناجحة شريطة أن تتوافق القوى الوطنية على تنفيذ برنامج إصلاح والابتعاد عن المناكفات السياسية التي أدخلت السودان في نفق شديد الظلمة والابتعاد عن التعامل بالأمنيات والعواطف مع الواقع الحالي او التوقعات المستقبلية..